الرئيسية

التفسير الموضوعي لسورة البقرة (5)

لذلك وجدنا أن اسم الإشارة ذلك الذي يشار به إلى البعيد إنما هو لما يحمله هذا اللفظ المؤلف من هذه الأحرف الثلاثة، فهو جوهر الكتاب الروحاني النوراني الذي لا يكون محله السطور، بل مجلاه في صدور الذين أوتوا العلم. ومن هنا كانت الإشارة بالبعيد لبُعد مكانته ومنزلته ومقامه، أن يشهده أو يمسّ شيئا من جوهره إلا من كان مطهراً. وهو بهذه الحقيقة قد نزل على قلب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ويشير إلى ذلك قول عمر رضي الله عنه مبينا حالهم في هذا التنزل القرآني وهم على مقربة منه وجلسائه فيقول: «كنا نسمع والوحي يتنزل على النبي صل الله عليه وسلم دويا كدوي النحل» لكنهم لم يدركوا له لفظا ولا معنى إلا بعد أن يسمعوه من النبي صلى الله عليه وسلم. وليس الأمر على ما ذكره بعض المفسرين أن الإشارة بذلك إنما هو لجملة الكتاب الذي لم ينزل بعد. يقول صاحب روح البيان: ألم مبتدأ على أنه اسم القرآن على أحد الوجوه، وذلك خبره إشارة إلى الكتاب فيكون الكتاب صفة والمراد به الكتاب الكامل الموعود إنزاله في الكتب المتقدمة وإنما أشار بذلك إلى ما ليس ببعيد لأن الكتاب من حيث كونه موعودا في حكم البعيد.
من أجل ذلك رأينا الكلمات والآيات جلّية في الكشف عن هذا المعنى فلا ريب فيه، أي لا مجال لأحد من العقلاء أن يرتاب في أنه منزلٌ من عند الله لما يحمله من التحدي للبشر جميعا أن يأتوا بمثل سورة منه. والبشر جميعا على مر الأزمان والعصور لا يعجزون عن مضاهاة أحد من البشر في أزمنتهم الحاضرة أو المتقدمة، بل المشهود والملاحظ أن سنة الترقي في العلم والتقدم في الكشف عن الحقائق الكونية والتربوية والنفسية، مما لم يتأت لأحد من قبل، فلا مجال بالضرورة لمن أنزل عليه بصفته وحقيقته اللدنية الربانية أن يجد مجالا لتطرق الريب إلى أي شيء من كلماته وآياته، خصوصا إذا ما أوتي البيان وانجلت له أنوار الآيات والأسرار. فمن سطرّه الله آيات بينات في صدره كان بها من المتقين المهديين بما يحمله من بينات الهدى والفرقان، فكانت هدايته لهم هداية مطلقة لكل ما أراد الله لهم أن يرثوه من علم النبوة، حيث علّمه الله ما لم يخطر على قلب بشر فكان به إمام المتقيين كما أخبر «أنا أتقاكم لله».
وكما أشار إلى أن حقيقة التقوى في الصدور وليست في صور الأفعال والحركات وصنوف الألفاظ القائمة بالكلمات فقال: «التَّقْوَى هَاهُنَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ إِلَى صَدْرِهِ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ» وهؤلاء هم خلفاء النبي صلى الله عليه وسلم الذين وصفهم بالراشدين المهديين من بعدي. فكل وارث للكتاب حقيقة هو مهدي، وإنما ختام عقد المهديين في الولاية هو ما أطلق عليه الإمام المهدي. ولكن المهدي مقام لكل وارث كامل لعلم النبوة فهو في مرتبة الأخوة للنبي صل الله عليه وسلم التي جعلها للإمام علي كرّم الله وجهه ظاهرا وباطنا كما هو الشأن في عالم النبوة حيث تحققت فيها الأخوة بين الأنبياء حتى انجلت بكمال أنوارها وأسرارها في حضرة خاتم الأنبياء والمرسلين. فهؤلاء هم الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم كل من آمن به أن يقتدوا بهم وما يسنونه لهم من الهدى والرشاد على علم ومعرفة من الله، حيث قال صلوات الله وسلامه عليه: «فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، وعُضُّوا عليها بالنواجِذ» لذلك كان وصفهم بالمتقين لأنهم بلغوا أعلى الدرجات في هذه التقوى. فإذا كان المفسرون رضوان الله عليهم أجمعين قد ذكروا درجات التقوى وقالوا التقوى في عرف الشرع عبارة عن كمال التوقي عما يضر في الآخرة، وله ثلاث مراتب، الأولى: التوقي عن العذاب المخلد بالتبري من الكفر وعليه قوله تعالى: «وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى» والثانية: التجنب عن كل ما يؤثم من فعل أو ترك حتى الصغائر عند قوم وهو المتعارف بالتقوى في الشرع وهو المعنيّ بقوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ». والثالثة: أن يتنزه عما يشغل سره عن الحق عز وجل ويتبتل إليه بكليته، وهي التقوى الحقيقة المأمور بها في قوله تعالى «يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ». وأقصى مراتب هذا النوع من التقوى ما انتهى إليه همم الأنبياء عليهم السلام حيث جمعوا رياستي النبوة والولاية، وما عاقهم التعلق بعالم الأشباح عن العروج إلى عالم الأرواح، ولم تصدهم الملابسة بمصالح الخلق عن الاستغراق في شؤون الحق لكمال استعداد نفوسهم الزكية المؤيدة بالقوة القدسية. والألوسي عليه رحمة الله يصف هؤلاء بقوله: هم رجالٌ أجسادهم في الحانوت وأرواحهم في الملكوت.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى