شوف تشوف

الرأي

التوكتوك العراقي

سعيد الباز
برزت، خلال الاحتجاجات التي شهدها العراق، وبالتحديد العاصمة بغداد، المركبات الصغيرة والملونة التي تسمى في الكثير من البلدان بالشرق الأوسط بالتوكتوك. هذا التوكتوك عبارة عن مركبة نارية ذات ثلاث عجلات تنتشر بكثرة في العديد من البلدان الآسيوية بسبب رخص ثمنها وقدرتها الفائقة على التنقل في الطرق المزدحمة والممرات الضيقة. بداية من هذا القرن، بدأت المركبة الآسيوية الشهيرة في الظهور بكثافة في الكثير من البلدان العربية، خاصة مصر وفي العاصمة القاهرة، تعبيرا واضحا عن مشكلة النقل عويصة الحلّ في هذه المدينة التي تعرف كثافة سكانية هائلة وازدحاما مروريا لا مثيل له إلّا في بعض الأقطار الآسيوية. ورغم كونه لا يتوفر على المواصفات الأمنية المطلوبة للركاب ولمستعملي الطرق عموما، ولا يمتلك في غالب الأحيان ترخيص السياقة أو اللوحات الرقمية للتعرف على هوية السائق، والأخطر من ذلك التأمين الضروري للسائق والركاب، فإن الكثير من البلدان غضت الطرف عنه وتعاملت معه على أنّه أمر واقع، وأنّه بطريقة أو أخرى يحلّ العديد من الأزمات التي عجزت هذه الدول عن حلّها، ومن أهمها مشكلة البطالة، ومعضلة النقل والسير والجولان في مدنها الكبرى.
ظهر التوكتوك العراقي هذه المرة ليعبر عن شيء آخر حيث تحوّل إلى أيقونة للمحتجين في العاصمة بغداد، وأصبح يؤثث مشهد الاحتجاج بحضوره القوي والكثيف خاصة في ساحة التحرير في بغداد. المظهر الآخر الذي تمّ اكتشافه خلال المظاهرات الصاخبة والعنيفة جدا، هو هذه المركبات الصغيرة التي أضحت وسيلة أساسية في إسناد المتظاهرين ودعمهم. فالتوكتوك العراقي تحوّل في الكثير من الأحيان إلى سيارات إسعاف حقيقية، كما أنّ اعتصام المحتجين في ساحة التحرير بصفة دائمة ولمدة طويلة اضطرهم إلى استعمال التوكتوك كوسيلة وحيدة للحصول على ما يكفيهم من المؤونة أكلا وشربا. إضافة إلى هذه الأدوار المهمة، تروي شهادات كثيرة للمحتجين كيف أن هذا التوكتوك كان سببا في إنقاذ أرواح بعضهم حين استعماله في الفرار من نيران القناصة أو المناورة به في المواقع الخطيرة.
اندلعت الاحتجاجات في العراق مثل لبنان تعبيرا عن أزمة نظام سياسي استنفد كل الوسائل الممكنة من أجل مواصلة الحكم بالأسلوب والطريقة نفسيهما، رغم مظاهر العجز والفشل الواضحين للعيان. فبعد الغزو الأمريكي تمّ وضع دستور جديد للعراق، كان من أهمّ خطوطه العريضة اعتبار العراق جمهورية برلمانية اتحادية، وبذلك أقرّ في الوقت نفسه، وبشكل عرفي، نظاما للمحاصصة جعل رئاسة الجمهورية ذات الطابع الشكلي والرمزي بيد الأكراد، ورئاسة الوزراء المهيمنة على الكثير من مؤسسات الدولة بيد الشيعة، ورئاسة البرلمان بيد السنة.
هذا التوزيع الذي باركته الأحزاب والهيئات السياسية حوّل العراق لأوّل مرة في تاريخه الحديث إلى دولة طائفية، وأصيبت مؤسسات الدولة بالعجز الكامل عن القيام بالإصلاحات الضرورية من تنمية اقتصادية واجتماعية وتوفير الخدمات الأساسية لمواطنيها، وفي المقابل عمّ الفساد كلّ مصالح الدولة ومؤسساتها. في البداية خرج المتظاهرون للمطالبة بتحسين أوضاعهم المعيشية ومحاربة الفساد وتوفير فرص العمل، فالعراق يعد بلدا غنيا فهو يحتل المرتبة الثامنة في إنتاج النفط والمرتبة العاشرة بالنسبة لاحتياطيه من الغاز الطبيعي، وبخلاف الدول الخليجية النفطية، يمتلك ثروة زراعية غير مستغلة بالشكل الكافي. لكنّ أرقام البنك الدولي تقول إنّ نسبة الفقر في العراق أصبحت تتجاوز 22 في المائة والبطالة ناهزت 25 في المائة. الآن لم يعد المتظاهرون يكتفون بهذه المطالب، بل أصبحوا يطالبون بتغيير جذري لهذا النظام الطائفي واستبداله بنظام لا يستند إلى أية مرجعية طائفية، ولسان حالهم يردد ما قاله شاعر العراق العظيم بدر شاكر السياب في قصيدة «أنشودة المطر»: «ما مرّ عام والعراق ليس فيه جوع».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى