سري للغاية

الجابري: «اعتقال البصري واليوسفي كان خطوة ضمن مخطط لإسقاط حكومة عبدالله إبراهيم»

كان اعتقال البصري واليوسفي ظاهريا كرد فعل على ما نشرته التحرير بخصوص ما تعرض له المقاومون الذين قصدوا القصر الملكي للشكوى (مقالة: «طردوا الاستعمار بالأمس فأصبحوا اليوم مطاردين» التي نشرناها أعلاه). وبما أنه لم يكن من اللائق في نظر الذين حبكوا المؤامرة ضد الاتحاد ربط المسألة بالقصر الملكي فقد تحولوا إلى التعليق الوارد في ركن «في الصميم» والذي يستعيد فقرات من بيان المجلس الوطني للاتحاد حول التناقض بين الحكومة كسلطة تنفيذية والإدارة التي لا تخضع لها. والحقيقة أن هذا وذاك لم يكونا سوى تغطية لمخطط تقرر من قبل، ويهدف إلى كسر شوكة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، انطلاقا من إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم وعرقلة تنفيذ التدابير التي أعدها وزير الاقتصاد الوطني عبد الرحيم بوعبيد والهادفة إلى تحرير الاقتصاد المغربي من التبعية لفرنسا ومن هيمنة الأوساط الانتفاعية «الوطنية».
لقد كنا نعرف أن الموعد الذي ضرب لإسقاط الحكومة هو شهر يوليوز ولكن لم يتمكنوا من ذلك، فحددوا يوم 15 ديسمبر كموعد نهائي، وقد تم اعتقال البصري واليوسفي في ذلك اليوم كتنفيذ لمخططهم. وكانوا يتوقعون أن يؤدي اعتقالهما إلى قيام جماهير الاتحاد بأعمال عنف وشغب مما يقدم ذريعة لاعتقال المقاومين والأطر الاتحادية كلها، وسقوط الحكومة وبالتالي توقف مسلسل التحرر.
غير أن المؤامرة فشلت. فردود الفعل لم تكن كما أرادها مخططو المؤامرة بل جاءت بما لم يتوقعوا: حملة صحفية تضامنية واسعة في العالم العربي وفرنسا والعالم أجمع. ولذلك أخذوا يراجعون حساباتهم فقرروا إطلاق اليوسفي لكونه صحفيا ومحاميا أثار اعتقاله ضجة دولية، والتركيز على المقاومين، كما سنرى.
رابعا: حملة قمع على المقاومين باسم «المؤامرة على ولي العهد»
1 ـ مؤامرة مزعومة للتغطية على المؤامرة الحقيقية
كان واضحا أن اعتقال البصري واليوسفي إنما كان تدشينا لحملة قمع واسعة ضد المقاومين الذين يشكلون إحدى القوى الثلاثة التي يتكون منها الاتحاد الوطني. وهكذا ففي يوم 17 ديسمبر بعد يومين فقط من اعتقال البصري واليوسفي ـ اختطف المقاوم المعروف بـ«ميشيل الحريزي» وهو الحاج الجيلالي الحريزي. كان متميزا عن زملائه المقاومين بكونه كان مثقفا حاصلا على الإجازة في الحقوق من فرنسا. وقد نشط في صفوف الحركة الوطنية عند عودته إلى المغرب، ثم ارتبط بالمقاومة والمقاومين. اختطف وأنكرت وزارة العدل في بلاغ لها أن يكون لها علم به، وحسب علمنا فما زال مصيره لحد الآن مجهولا.
غير أن تنفيذ المخطط على نطاق واسع لم يبدأ إلا في منتصف شهر فبراير الذي شهد حملة اعتقالات واسعة النطاق طالت كبار المقاومين، كما طالت جيش التحرير الذي كان يعمل في الساقية الحمراء ووادي الذهب، وفي تافيلالت. لقد صدر الأمر بحله واستغل في ذلك زلزال أكادير يوم 29 فبراير 1960 بعد أن بلغ التضييق عليه مداه. ومعلوم أن جيش التحرير قد تمكن من تحرير الساقية الحمراء كلها ولم يبق فيها للجيش الإسباني وجود إلا في بعض الجيوب البحرية.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى وجهت تهمة محاولة «اغتيال ولي العهد» للمقاومين المعتقلين. وقد ذكرت جريدة ليفار التي كان يصدرها أحمد رضا كديرة مدير ديوان ولي العهد «أن عضوا من أعضاء المقاومة تقدم إلى الدرك الملكي وكشف عن مؤامرة أعدت بإحكام لاغتيال ولي العهد، وأنه أخبر بمكان وزمان تنفيذ المؤامرة». وطالبت جريدة كديرة «بالذهاب بالبحث إلى الزعماء، إلى رأس الثعبان». غير أن اسم هذا المقاوم المزعوم لم يكشف عنه قط؟ ولم يواجه المعتقلين؟ ولم يرد ذكره في أية مرحلة من مراحل البحث «والتحقيق»!
وجهت تهمة حيازة أسلحة لبعض المقاومين، غير أن «الرأي العام» سرعان ما وضعت الأمور في نصابها الحقيقي. فأوضحت أن الأمر لا يعدو أن يكون بعض المقاومين قد احتفظ بمسدسه الذي استعمله زمن المقاومة كتذكار، لا غير.
أثار اعتقال رجالات المقاومة ردود فعل وطنية كان من أبرزها استقالة المرحوم شيخ الإسلام محمد بلعربي العلوي عضو «مجلس التاج» يوم 29 فبراير 1960، يوم صدور الأمر بحل جيش التحرير. وقد أدلى شيخ الإسلام بتصريح لجريدة الرأي العام ندد فيه بالمؤامرة المدبرة ضد المقاومين، ودعا إلى تصفية مصالح الاستعمار (10 مارس 1960).
أما صك الاتهام الموجه ضد المقاومين فقد كان يتألف من أربع تهم هي: «المس بسلامة الدولة، مؤامرة تستهدف اغتيال ولي العهد، التملك غير الشرعي للسلاح، تأسيس عصابة للإجرام».
وتلك تهم تذكرنا بتلك التي وجهت للبصري واليوسفي قبل شهرين ونصف من ذلك التاريخ. وكما انكشف زيف التهم الأولى بسرعة رأى الرأي العام الوطني والدولي في التهم الموجهة إلى المقاومين طبخة محبوكة، خصوصا وقد وجهت لكبار المقاومين المعروفين الذين كان لهم اتصال واعتبار لدى محمد الخامس. إنهم نفس المقاومين الذين بلغوا الملك الراحل محمد الخامس ـ والفقيه البصري من بينهم ـ أنهم لا يثقون إلا به وأن ولاءهم له وليس لأي أحد غيره. وقد نشرت الصحف الفرنسية آنذاك تعاليق تفضح زيف هذه التهم وتضعها في إطارها الحقيقي. من ذلك هذا التعليق الذي نشرته جريدة ليبراسيون يوم 12 مارس 1960 ونقلناه عنها ونشرناه في الرأي العام. وقد جاء فيه ما يلي: «إن الاثني عشر شخصا المتهمين بالتهم السابقة هم شخصيات مشهورة في المغرب وكلهم ينتمون للمقاومة المغربية وقد اعتقلوا ما بين 14 و22 و26 فبراير واحتفظت الشرطة بهم». ثم أضافت الجريدة الفرنسية قائلة: «يظهر أن حيلة الزعماء الرجعيين قد لجأت إلى إقناع الملك بوجود مؤامرة تهدف للقضاء على حياة ولده، بينما يجمع الملاحظون على القول بأن هذه المؤامرة مختلقة من أساسها ومصنوعة بكيفية بعيدة عن التوفيق. والهدف على كل حال، وحسب ما يقوله هؤلاء الملاحظون، هو وضع نهاية لحكومة عبد الله إبراهيم وبوعبيد في أجل قريب نسبيا، وأن على هذه الحكومة أن تترك الحكم بعد أن حصلت على نتائج مدهشة بالرغم من الصعوبات التي لقيتها. وهذه النهاية ستكون إما عن طريق استقالة الحكومة، وهذا ما يرتئيه نائب رئيس الحكومة ووزير الاقتصاد السيد بوعبيد، وإما بواسطة إقالة الملك للوزراء وهذا الحل يضع المسؤوليات في موضعها، وهو ما قد يفضله الوزير الأول عبد الله إبراهيم».
والمقاومون الذين اعتقلوا هم: حسن صفي الدين، وعبد الله الصنهاجي، ومحمد منصور، والتهامي نعمان، ومحمد بنسعيد، ومحمد الذهبي، وبوشعيب الدكالي، ومحمد السكوري، والهاشمي المتوكل، والجيلالي حيدر، والرداد البوعزاوي، وعبد الرحمان الزيات، ومبارك الوردي، وعمر بنسعيد، وسعيد بونعيلات.. إلخ. وقد طالت الاعتقالات مقاومين آخرين في مختلف أنحاء المغرب، وكأنهم اجتمعوا جميعهم «ليتآمروا على ولي العهد»؟
أطلق سراح بعضهم وقدم الآخرون لقاضي التحقيق وهم: الهاشمي المتوكل، والجيلالي حيدر، وعبد الرحمان الزيات، والتهامي نعمان، وأحمد ذو الفقار، ومحمد بنسعيد، وبوشعيب الدكالي، ومحمد بويزة، والخنوري محمد، والسكوري محمد، والوردي محمد، والنجاري محمد، وعمر بنسعيد، ومبارك وردي بوشامة، وبوعزة سلامة محمد، وسعيد بونعيلات.
2 ـ انكشاف زيف التهم وردود فعل ساخطة
أثار اعتقال هؤلاء المقاومين البارزين والتهم الغليظة الموجهة إليهم والملاحقات التي طالت زملاءهم في جميع أنحاء المغرب، ردود فعل ساخطة على مختلف المستويات، خصوصا لدى المقاومين الذين بقوا خارج الاعتقال، سواء منهم الذين كانوا يشتغلون أو من كان خارج الوظيفة.
ومن ردود الفعل التي اكتست طابعا خطيرا ذلك الذي صدر عن بعض قدماء المقاومين الذين لم يتحملوا ما تعرض له إخوانهم من اعتقال تعسفي وتهم باطلة، وما كانوا يتعرضون له من استفزازات تعسفية. فالقائد البشير، القائد ببني ملال، لم يتمالك ـ حين تعرض للاستفزاز من طرف عميد للشرطة معروف بماضيه سيء السمعة ـ أن أخرج مسدسه وهما في حالة شجار انتهى بسقوط عميد للشرطة تحت وقع ضربة مسدس. فاعتصم القائد البشير بالجبل في ناحية بني ملال في شبه عصيان، ثم التحق به آخرون. في نفس الإطار كان تمرد مراكش: رجال من المقاومة اعتصموا بالجبال: الشافعي والبشير المطاعي وحسن الروداني، وقد لاحقتهم فرقة من القوات الملكية وقتلتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى