سري للغاية

الجابري: «الديمقراطية الواقعية هي تلك التي تجمع بين الجانب الاقتصادي والاجتماعي والجانب السياسي»

الفصل الحادي عشر

من «الديمقراطية الواقعية» إلى المجلس التأسيسي

أولا: مطلب الديمقراطية في الاتحاد.. وفي الحكومة

عندما قرر المغفور له محمد الخامس إسناد رئاسة الحكومة إلى عبد الله إبراهيم، كان الأمر يتعلق بتشكيل حكومة ائتلافية. وقد عرض هذا الأخير على اللجنة التنفيذية للحزب المشاركة في هذه الحكومة فقبلت في أول الأمر ثم رفضت بعد ذلك. وهكذا قررت مقاطعة تلك الحكومة التي ضمت شخصيات استقلالية من الجناح الذي ينتمي إليه عبد الله إبراهيم (عبد الرحيم بوعبيد، التهامي عمار، المعطي بوعبيد…) وأخرى «محايدة» أو محسوبة على القصر. وقد نص الخطاب الملكي الذي بموجبه تم تنصيب هذه الحكومة، على أن من مهامها: الإعداد لإجراء انتخابات بلدية وقروية «ستكون نتائجها مرآة لمعرفة اتجاهات الرأي العام»، قبل انتخاب مجلس وطني. وهكذا تكون مسألة إقرار الديمقراطية جزءا أساسيا من مهمة الحكومة.

هذا من جهة، ومن جهة أخرى نص القرار الذي وافقت عليه «المؤتمرات الجهوية الاستثنائية» التي أعلنت عن قيام «الجامعات المستقلة لحزب الاستقلال» في 25 يناير 1959، على أن هذه الجامعات عازمة على أن «تنظم نفسها تنظيما ديمقراطيا… وبذلك تتجند الجماهير الشعبية للنهضة المباركة التي تفرضها المرحلة الحاسمة في سير البلاد نحو تحقيق الأهداف الوطنية للتحرر من القيود العسكرية والاقتصادية وبناء صرح ديمقراطية واقعية».

وقد تأكد هذا الاختيار الديمقراطي في ميثاق تأسيس الاتحاد الوطني 6 سبتمبر 1959)، حيث ورد من بين الأهداف التي سطرها لنفسه: «إقامة ديمقراطية واقعية تضمن لجميع المواطنين تسيير شؤونهم بأنفسهم سواء في الصعيد الوطني أو المحلي في دائرة ملكية دستورية تحت رعاية صاحب الجلالة محمد الخامس».
والمقصود بـ «الديمقراطية الواقعية»: الديمقراطية التي تجمع بين الجانب الاقتصادي والاجتماعي والجانب السياسي. وتنطلق من القاعدة. وذلك في مقابل «الديمقراطية الشكلية» المحض التي تهتم بتوزيع المقاعد في البرلمان بين «اللاعبين السياسيين»، أي الأحزاب، دونما اعتبار للديمقراطية الاجتماعية التي تقوم على التوزيع العادل للثروة وتكافؤ الفرص، وكان يفهم منها أيضا «التسيير الذاتي» لمؤسسات الإنتاج…إلخ. وكان هذا الطرح (الديمقراطية الواقعية) يتردد، بالخصوص، على لسان عبد الله إبراهيم والاتحاد المغربي للشغل.

ثانيا: المجلس الاستشاري: «مجلس غير مأسوف عليه»..!

سبق أن ذكرنا أن المرحوم عبد الرحيم بوعبيد أشار في التقرير الذي قدمه إلى «المؤتمر الاستثنائي» لحزب الاستقلال ديسمبر 1955)، إلى رغبة جلالة الملك محمد الخامس «في إيجاد مجلس استشاري يقوم بجانبه ليعينه في مهمته»، وأضاف: «ومن البديهي أن هذا المجلس إنما هو مؤسسة مؤقتة تعبر عن عزمنا على أن نسلك بدون تأخير طريقة الملكية الدستورية، ولكن هذه المؤسسة يجب أن تلغى بمجرد تحرير السيادة المغربية من قيودها ليحل محلها مجلس وطني منتخب يتمتع بكامل السيادة».

كان من المفروض إذن أن يتم تأسيس المجلس الاستشاري في المرحلة الانتقالية التي تفصل بين عودة المرحوم محمد الخامس وتشكيل الحكومة الأولى ديسمبر 1955) وبين انتهاء المفاوضات مع فرنسا حول الاستقلال مارس 1956). غير أن الإعلان عن تأسيسه تأخر إلى 2 نوفمبر 1956، في ظروف الأزمة الوزارية التي أطاحت بحكومة البكاي الثانية، وكان ذلك نوعا من «الترضية» لحزب الاستقلال الذي لم يحصل على مطلبه الخاص بـ «الحكومة المنسجمة». كانت الأغلبية داخل هذا المجلس لحزب الاستقلال، فلم يكن الصراع خلال السنتين الأوليين من عمره (الذي حدد بثلاث سنوات) في مثل الحدة التي طبعت آخر دورة له التي انعقدت في مارس 1959 لمناقشة ميزانية تلك السنة. لقد جاء انعقاد هذه الدورة بعد شهرين فقط من انتفاضة 25 يناير، فكان الصراع حادا بين الموالين للقيادة التقليدية لحزب الاستقلال وبين المنضمين للانتفاضة. وبعد مناقشات ومناورات تم التصويت يوم 4 أبريل بالأغلبية على الميزانية التي هيأها المرحوم عبد الرحيم بوعبيد على عهد حكومة عبد الله إبراهيم. وكان ذلك آخر جلسة لذلك المجلس.

كنت في مكتبي بجريدة «التحرير» حين دخل عليَّ الشهيد المهدي في اليوم الثاني 5 أبريل 1959، وطلب مني أن أتركه لوحده لبعض الوقت فانتقلت إلى المكتب المجاور وبعد نحو نصف ساعة نادى علي ومد لي ورقتين وقال: «هاك، اقرأ، سيعجبك!». كانت افتتاحية جعل عنوانها: «مجلس غير مأسوف عليه». ونصها:
«إن في مداولات المجلس الوطني الاستشاري وفي الجو الذي سادها خلال أيامه الأخيرة لعبرة لمن اعتبر وذكرى لمن له فكر واع وشعور بالمصالح العمومية للبلاد والأمة. لقد تبين من خلال ما راج في المجلس، في الأيام الأخيرة، الخط الفاصل بين القوات الشعبية وبين ذوي المصالح والأغراض الشخصية، واتضح حنق هؤلاء على رغبات الجماهير واستهتارهم بها وإيثارهم الراسخ لمنافعهم الشخصية على المنفعة العامة.

وكلنا نذكر أن المحتكرين لم ينضموا إلى الإرادة الشعبية في تصويتاتهم إلا متى كانت المقررات المعروضة على اقتراع المستشارين غير ماسة بما ألفوا أن يعتبروه مصالحهم وفوائدهم والربح الذي يدافعون عنه على حساب الشرف والضمير، وعلى حساب مستقبل شعب بأجمعه. وقد نسي الانتفاعيون أن المجلس الوطني الاستشاري تأسس كما عبرت عن ذلك الرغبة الملكية السامية ليكون لبنة لحياة ديمقراطية بناءة، وذلك في إطار الانسجام الذي ما فتئ يربط بين جلالة الملك الديمقراطي وشعبه المدين له بالكثير من الخيرات والمحامد. وفي نسيانهم لهذه الحقيقة تنكر للمبادئ العليا التي كافح الشعب من أجلها ولا زال يكافح. ولكن الشعب لا ينسى.

الشعب لا ينسى على أية حال أن الأكثرية من أعضاء المجلس معين تعينا صرفا، وأنهم يمثلون قيادة حزب الاستقلال القديمة العاجزة، وأنهم نموذج لها في تصرفاتهم وأفكارهم وأساليبهم، ولذا فإن اتجاههم الرجعي لا يتفق والتيار الذي يسري في قاعدة الحزب وفي الأمة كافة. ولم يؤيد الانتفاعيون مطامح القاعدة والأمة إلا ثلاث مرات عندما اضطروا لمساندة الملتمسات التي ألهمها الاتحاد المغربي للشغل، حول تقرير مبدأ عدم التبعية في سياستنا الخارجية، ثم لتأييد ثورة شعب العراق ضد الإقطاعية وطلب جلاء الأمريكان عن لبنان وعدم استعمال قواعدهم في المغرب ضد الدول العربية الشقيقة. لقد اضطروا لتأييد تلك الملتمسات لأنها لا تمس مباشرة بمصالحهم.

لكن عندما وضعت مشكلة تأميم تجارة الشاي أماط الرجعيون اللثام عن وجوههم وكشروا عن أنيابهم مرضين ـ بموقفهم المعارض لمطلب من أهم المطالب الشعبيةـ سماسرة الاستعمار وأعوانه، ومعززين مصالح الشركات الاحتكارية الأجنبية. وبالأمس عبر نفس الأشخاص عن حقيقتهم فوقفوا موقف المناوأة السافرة لسياسة التحرر الاقتصادي، وعبروا في غير لبس أو غموض عن كونهم لا يعيرون أي عطف أو اهتمام لمصير جماهير العملة والفلاحين، ولا غرابة أن ينهزموا، كما لا غرابة أن نراهم يصنعون نعشهم بأيديهم، فلن تجديهم حملات صحافة اختصت بالكذب وتتميز بالزور والبهتان لأن الأمة لفظتهم.

والمجلس الذي تنتهي عما قريب مهمته ليس، كما دلت التجربة، معبرا في مجموعه عن رغائب الشعب، ولهذا لن نأسف عليه أبدا، بل سنعمل كما عملنا دائما لتحقيق الديمقراطية، وسيظهر الحق بعد الانتخابات التي نريد أن ينبثق عنها تمثيل للشعب صحيح. وإن لنا في حكمة شعبنا وذكائه وروحه النفسانية النضالية ما يكفينا من رصيد الآمال في أن تخرج الرجعية من تلك الانتخابات منهزمة ذليلة وأن تعلو على أطراف هذه البلاد أعلام الحرية والرفاهية والتقدم».

ثالثا: المطالبة بانتخاب مجلس تأسيسي لوضع الدستور

تميزت السنة التي تفصل بين أبريل 1959 الذي انتهى فيه عمر المجلس الوطني الاستشاري، وأبريل 1960 الذي اشتدت فيه الحملة التي أدت إلى إقالة حكومة عبد الله إبراهيم، بصراع حاد خاضه الاتحاد الوطني لمساندة التدابير الاقتصادية التحررية التي أعدها وزير الاقتصاد في حكومة عبد الله إبراهيم المرحوم عبد الرحيم بوعبيد. وكانت الأطراف المناوئة لسياسة التحرر الاقتصادي قد جندت كل إمكانياتها لعرقلة تلك التدابير، وعندما فشلوا في مسعاهم ذلك ووافق جلالة المرحوم محمد الخامس على تلك التدابير في مجلس وزاري انعقد تحت رئاسته في 16 أكتوبر 1959، تجند خصوم التحرر ـ الذين حللنا هويتهم ـ للعمل على حمل الملك على إقالة حكومة عبد الله إبراهيم. وعندما أخذ يتأكد احتمال نجاحهم في مسعاهم ذاك، طرحت قيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية المسألة الدستورية كرد فعل طبيعي ضد استغلال القوى المعادية للتحرر للفراغ الدستوري الذي مكنها من السعي لطلب إقالة الحكومة، خارج أي إطار ديمقراطي.

انعقد المجلس الوطني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية يوم 3 أبريل 1960 برئاسة المرحوم الأستاذ البوحميدي، وتحدث فيه كل من أحمد بنسودة وعبد الهادي بوطالب، وكانوا كلهم أعضاء في الكتابة العامة للاتحاد. تناول بيان المجلس مختلف القضايا المطروحة الداخلية والخارجية وطرح مشكل الديمقراطية وتنظيم الحكم وطالب بانتخاب المجلس التأسيسي لوضع الدستور في فقرة خاصة هذا نصها:
«والمجلس الوطني إذ يلاحظ أن البلاد لا تتوفر حاليا على مجالس ديمقراطية لا في الصعيد الوطني ولا في الصعيد المحلي، يعلن أن تجربة الأربع سنوات الأخيرة تفرض التعجيل بإقامة نظام ملكية دستورية، وأنه لم يعد موجب ولا مبرر لتأخير قيام هذا النظام بعد أن أجمع الشعب على المطالبة به وأقره جلالة الملك مرارا في خطبه وتصريحاته. ولذلك يطالب المجلس الوطني بالشروع فورا في انتخاب مجلس تأسيسي لوضع دستور ديمقراطي متحرر، يعتبر الشعب مصدر السلطات ويضع حدا للتعفن والفساد، كما يضمن لجميع المواطنين حرياتهم الأساسية دون اعتبار للفروق العقائدية والعنصرية».
وقد طلب وفد من الاتحاد الوطني مقابلة مع جلالة المرحوم محمد الخامس وقدم له نسخة مقررات المجلس الوطني المذكور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى