سري للغاية

الجابري: «طالبنا الحسن الثاني باتباع خطة أبيه التي تقضي بالتفريق بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية»

سادسا: الحكم الفردي بعد وفاة محمد الخامس
ودخلت تجربة الحكم الفردي في طور جديد بعد وفاة محمد الخامس، وكنا نأمل أن الحسن الثاني سيستفيد أكثر من غيره من درس الأحداث ويتبع خطة أبيه التي تقضي بالتفريق بين السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية إلى أن يؤسس مجلس وطني بعد انتخابات عامة. كنا نأمل أنه سيحافظ على رسالة أبيه التي هي بمثابة وصية. وعلى هذا الأساس وقع اتصال بين المسؤولين في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية والملك الحسن الثاني بمجرد تسلمه لمقاليد الملك، تدل على ذلك هذه الفقرة من المذكرة التي رفعتها إليه الكتابة العامة للاتحاد بتاريخ 13 مارس 1961، وقد جاء فيها «ونحن نؤكد بكل صراحة أن فكرة الاستمرار التي تسود كل نظام ملكي تتنافى كل المنافاة مع ممارسة الحكم مباشرة من طرف جلالة الملك، وأن عواقبها خطيرة بالنسبة إلى استقرار البلاد، وأن من يقوم بهذا الأسلوب في الحكم المباشر إنما يريد أن لا يتحمل مسؤولية منصبه أمام رئيس الدولة وأمام الرأي العام الوطني». وقد بين الاتحاد بهذه المناسبة بدون لبس ولا التواء استعداده للعمل ولتحمل مسؤوليته السياسية بكيفية إيجابية بناءة، بشرط أن تكون مبنية على أسس منطقية سليمة وأن تتجاوب مع رغبة الجماهير في إقامة حكم دستوري. ولكن سرعان ما خاب هذا الظن، فقد خرج ممثلو الاتحاد من مقابلتهم مع الملك متفائلين بعض الشيء, لأن الملك أكد لهم استعداده للتعجيل بالانتخابات العامة في الأسابيع المقبلة، وبين لهم أن الاستمرار في الحكم الفردي فكرة قد انتهت. إلا أنه ما مرت أسابيع حتى تأسست الحكومة الحالية بدون أن تجرى أية استشارات مع الاتحاد الوطني، وعلى أساس مناقض تماما للمحادثات التي أجراها من قبل مع رئيس الدولة.
والأغرب من كل هذا أن الهيئات التي شاركت في الحكم دخلت كلها على أساس فردي، لا يقبل من المشاركين أن يتقيدوا بأي برنامج أو خطة، حيث كان هذا الحكم مصطبغا باتجاه فردي ورجعي في آن واحد، وبصورة أقوى بكثير مما كان عليه الحال أيام محمد الخامس. وكل هذه الأحداث يعرفها المواطنون حق المعرفة، وما كنا لنذكرها لولا أن بعض الإذاعات الأجنبية أذاعت استجوابا لها مع رئيس الدولة، قال فيه «إنه لا يعرف شيئا عن برنامج المعارضة وموقفها»، مع أن الاتحاد منذ أن بدأت تجربة الحكم الفردي وهو يتحمل مسؤوليته كحركة سياسية واعية تضع نفسها عند خدمة الشعب، فلا تفتأ تنبه إلى الأغلاط التي يرتكبها المسؤولون وتبدي وجهة نظرها في كل القضايا الوطنية وتقوم بدورها كمعارض نزيه لا يخل بواجبه. وإذا كان الحكم الفردي لا يريد أن ينظر إلى المعارضة بمنظار الحقيقة الموضوعية، فلأن له مقاصد أخرى يسعى إليها. فما هي هذه المقاصد.
إن الحكم الفردي في الواقع حكم تأسس لمعارضة الفكرة الديمقراطية وكل برنامج يرمي إلى إرجاع السيادة إلى الشعب ومراقبة نواب الأمة على الحاكمين. فنحن نقول إن الشعب هو مصدر السلطات, وله وحده الحق بواسطة ممثليه بأن يعطي للبلاد الحكومة والأجهزة الإدارية التي تستطيع تحت مراقبته أن تلبي رغبات الشعب في التطور الجدي والعدالة الاجتماعية. أما أنصار الحكم الفردي فهمهم الوحيد هو تأخير أجل الانتخابات والتنكر للشعب في حقه في ممارسة السلطة.
سابعا: تحزب الحكم الفردي..
ومن هذه النقطة يبدأ الصراع بين الحكم الفردي والحركة التقدمية. وكما كنا نتوقع، وكما هو طبيعة كل حكم استبدادي، فقد أصبح رئيس الدولة في هذا الصراع في موقف الخصم، فهو في هذا الوضع شبيه برئيس حزب معين له فكرة معينة ويعمل ضد حزب آخر. وما أبعده، وهو في هذا الوضع، عن دور الحكم الذي لا يتحزب، ولا يناصر فريقا على فريق، وينظر إلى الكل بمقاييس واحدة. وقد أصبح هذا الموقف يتجلى في سائر مظاهر الدولة وميادين نشاطها، ونورد هنا بعض الأمثلة:
1 ـ الوظيفة العمومية: فقد فقدت الوظيفة العمومية معناها الحقيقي ومقاييسها التي تصونها من العبث وتحتفظ لها بحرمتها. وهكذا أصبح هم الحكم الفردي هو مطاردة كل الموظفين الذين يحملون أفكارا تقدمية ويتسمون بالشجاعة الأدبية. فمنذ أزيد من سنة وأحرار الموظفين يطردون من المناصب ومكاتب الدولة والمصالح العمومية، لا لجرم اقترفوه وإنما لكونهم يعطفون على المعارضة ويدافعون عن أفكارها، أو يطردون فقط بهدف فرض «احترام» قانون الوظيفة العمومية. وأي معنى يبقى لفكرة الدولة إذا أصبحت الوظيفة العمومية غير مبنية على أساس الأحقية والكفاءة والتجربة. بل أصبح مقياسها الذي تسير عليه هو الميز السياسي المحض؟ ومعنى هذا أن الوظيفة العمومية لم تعد تشتغل بمصالح الأمة وإنما بالدفاع عن مصالح الوضع القائم.
2 ـ الهيئات التمثيلية: المجالس البلدية والقروية والغرف التجارية: إن هذه الهيئات وضعت بنص القانون وأسندت إليها اختصاصات من الدولة التي تضمن لها احترام اختصاصاتها، إلا أنه لما ظهرت نتائج الانتخابات وكانت لصالح التيار التقدمي في البلاد، تبين أن الحكم الفردي لا يستطيع أن يحترم القوانين التي سنها بنفسه. فالغرف التجارية مثلا لا تستشار في المشاريع الاقتصادية والتجارية والمالية كما ينص على ذلك القانون، في حين أن شرذمة معروفة من التجار من الذين أخفقوا في الانتخابات الأخيرة تواصل الاستشارة معهم، رغم كونهم لا يمثلون إلا أنفسهم. بل إن الاستشارات تجرى حتى مع الهيئات الفرنسية والأجنبية. فما ذنب تلك الغرف؟ ذنبها هو أنها تنتمي وتعطف على حركة سياسية تطالب بحكم تمثيلي على أساس انتخابات عامة.
ويمكننا أن نقول نفس الشيء عن المجالس البلدية. فمنذ ظهرت نتائج الانتخابات لصالح النزعة التقدمية، وضع لها عمدا قانون يضيق عليها في الاختصاصات ويضعها تحت حجر إدارة غير كفؤة وتتسم في نفس الوقت بالفساد والتدهور والرشوة. وحتى في إطار الاختصاصات المسموح بها فإن تلك المجالس تصادف عقبات ومشاق في سبيل تنفيذ مشاريعها نتيجة لما تنصبه أمامها الإدارة من عراقيل مختلفة.
3 ـ الوحدة النقابية: وفي الميدان النقابي أظهر الحكم الفردي موقفه العدائي المتحزب بصورة واضحة، حيث أنشأ ومول وأيد بجميع الوسائل الحكومية نقابة مزيفة لا مبدأ لها ولا برامج ولا اتجاه، إلا مساندة الحكم الفردي ومحاولة تشتيت الوحدة العمالية. ووجود نقابة كهذه لا يمكن أن تبرره فكرة الحرية النقابية، لأن تلك الحرية تقتضي عدم تدخل الدولة، وخاصة رئيسها، في مثل هذا الميدان. والقراء يعرفون كيف أن المصالح الحكومية تسعى في كل جهة لإيجاد نقابة مزيفة مع مد كامل المساعدات والتشجيعات لها.
وصفوة القول إنه كان من الممكن أن ينتج بعض التعاون لصالح الدولة بين الحكم القائم والمعارضة بواسطة الهيئات المنتخبة التي سنتها قوانين مشروعة، بل ربما كان هذا التعاون من شأنه أن يخفف من وطأتها (= الدولة) وحدتها ويحفظ البلاد وأجهزتها الإدارية من الفساد والتدهور اللذين أصبحا عليهما اليوم.
لكن تجربة سنة بينت أن الحكم القائم لا يستطيع ذلك نظرا لنزعته وطبيعته، فهو لا يكفيه أن يعارض في إقامة حكم ديمقراطي على الصعيد الوطني، بل يتنكر حتى لحقوق واختصاصات الهيئات التمثيلية الموجودة، ضاربا بالقوانين عرض الحائط، وكأنه يريد أن يقيم الحجة على أن ممارسة الحكم على الصعيد المحلي أو الإقليمي أو الوطني بواسطة ممثلي الأمة لا تؤدي إلى نتيجة. لكن الوعي الشعبي تقدم خلال هذه المدة حيث اكتشف حقيقة الأشياء والنوايا الخفية التي يكنها رجال الحكم اليوم. ومقياس ذلك أن بعض الهيئات المنتخبة في البوادي والمدن كانت بعيدة عن الاتصال بالاتحاد الوطني أصبحت اليوم تحمل أفكاره وتتبنى الحلول التي يرتئيها. وإنه لمن المحقق أن تجربة هذا المجلس ستستفيد منها الحركة التقدمية في المعارك المقبلة».
الفصل الثالث عشر
انتصارا للديمقراطية..
حرية الصحافة والديمقراطية.. بالمغرب!
أولا: حرية الصحافة بالمغرب بين القانون والواقع
في 3 أبريل 1962 نشرت «التحرير» مقالا تحت هذا العنوان، من جملة مواد أخرى، بمناسبة الذكرى الثالثة لصدورها 2 أبريل 1959، ويتناول هذا المقال قضية حرية الصحافة في المغرب انطلاقا من تحليل نقدي لقانون الصحافة. وهو في نفس الوقت رد على أجهزة الدولة التي كانت تقلل من شأن الدستور والمؤسسات التمثيلية، بدعوى أن جوهر الديمقراطية موجود في المغرب وهو حرية التعبير. وفي ما يلي نص المقال، وقد اعتمدت في الجوانب القانونية فيه على رئيس التحرير الأستاذ المحامي عبد الرحمان اليوسفي. تحت العنوان الرئيسي أعلاه عنوانان آخران هما: «القانون.. تحكم فردي من وزير الداخلية وتدخل الحاكمين في القضاء». «الواقع.. عمليات بوليسية لا تخضع لأي منطق أو أي قانون».
نص المقال:
«كثيرا ما يؤكد المسؤولون، سواء في تصريحاتهم أو في تعليقاتهم، بل ويفتخرون بكون المغرب يتمتع بحرية للصحافة واسعة لا تتمتع بها كثير من البلدان. ونحن هنا لا نريد أن نصدر حكما مبتسرا في الموضوع، وإنما نريد قبل كل شيء إلقاء نظرة على قانون الصحافة في المغرب وإظهاره على حقيقته من خلال تطبيقه في الواقع، وذلك حتى يتمكن القارئ بنفسه من أن يحكم:
هل هناك حقيقة حرية صحافة في المغرب, أم أن القول بذلك إنما هو مجرد ادعاء وتضليل؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى