سري للغاية

الجابري: «هكذا أعلن محمد الخامس إقالة رئيس الحكومة وكلف الأمير ولي العهد برعاية شؤونها»

5 ـ الدعوة إلى استخلاص الدرس والعبرة
نشرنا الخبر بابتهاج لا يفوقه إلا الابتهاج العام والعميق الذي ساد الجماهير الشعبية التي كانت تعرف زيف التهمة وخلفيات المؤامرة من خلال ما كنا ننشره من تعاليق نكتبها، أو ننقلها من الصحافة الأجنبية التي أجمعت على مناصرة قضية الاتحاد. ودعوة الملك الراحل محمد الخامس علانية إلى التدخل قبل أن يفوت الأوان.
وفي اليوم التالي لإطلاق سراحهم كتبت في ركن «بالعربي الفصيح» بـ الرأي العام يوم 5 يونيو 1960 التعليق التالي:
«أطلق أول أمس سراح محمد البصري والمقاومين الذين كانوا قد ألقي عليهم القبض منذ بضعة أشهر بتهمة كشفنا عن زيفها غير ما ما مرة على أعمدة هذه الجريدة. ونحن هنا لا نريد التأكيد على ملابسات هذه القضية وظروفها ومراحل تطورها، فذلك شيء اطلع عليه القراء جملة وتفصيلا. وإذا كنا نأسف لهذه الاعتقالات التي وقعت في صفوف رجال شاركوا في مشاركة فعالة في تحرير المغرب من الاستعمار، هذه الاعتقالات التي عانت منها البلاد في جو من البلبلة والغموض والالتباس فترة من الوقت لم تشهد البلاد مثيلها بعد الاستقلال، وإذا كنا اليوم مسرورين بانتصار العدالة والقيم الوطنية بخروج هؤلاء من السجن، بعد أن ذاقوا داخله أصنافا عديدة من التعذيب والحرمان، فإننا في الوقت نفسه مسرورون بالتطورات العميقة الواسعة التي حدثت في صفوف الجماهير خلال هذه المدة القصيرة بأيامها الطويلة بنتائجها.
لقد كان الاستعمار وأذنابه ومن يسير في ركابه يظنون أن اعتقال هؤلاء الإخوان الذين كانوا من قادة الحركة التقدمية ببلادنا سيقضي على هذه الحركة في المهد ويحدث نكسة في صفوف الشعب، نكسة تؤدي الجماهير ثمنها غاليا. لقد كان هذا منطق مدبري المؤامرة التي ذهب ضحيتها الإخوان المقاومون وهو منطق استعماري محض، منطق الاستعمار والخيانة والرجعية التي لا تؤمن بقوة الشعوب وبزحف الشعوب وبإرادة الشعوب. كان هذا وما يزال هو منطق الاستعمار وهو منطق مبني على الضغط والعنف والتآمر. وقد عرفت بلادنا هذا المنطق نفسه في سنوات الكفاح من أجل الاستقلال وخاصة في الفترة ما بين 1953 ـ 1954 كما عرفته بلدان أخرى، ومن جملتها الجزائر الشقيقة التي يتجلى فيها المنطق الاستعماري بأجلى وأوضح صورة، وتعرفه أيضا بلدان أخرى وشعوب أخرى شقيقة في الكفاح بإفريقيا وآسيا. وإن ما حدث أخيرا في كوريا وتركيا، وإن ما حدث قبل ذلك في بلدان شقيقة، كل ذلك يبرهن عن فشل المنطق الاستعماري وفشل أساليبه كما يبرهن بكيفية عملية تاريخية واضحة أن الشعوب اليوم في كل مكان سائرة في طريقها نحو النمو والانعتاق، وأن التيارات الجماهيرية السائدة في كل مكان هي تيارات صنعها التاريخ وصنعتها الأحداث واستمدت قوتها وفعاليتها من حقائق التاريخ وخلاصة التجارب، واستمدت إرادتها من إرادة المستقبل الأفضل، المستقبل الذي تتوق إليه الشعوب، وهو مستقبل مبني، بادئ ذي بدء، على التحرير وكفاح الجماهير في كل مكان رغم مناورات ومؤامرات الاستعمار. هو كفاح مكلل بالنجاح مكتوب له النصر حتما لأنه كفاح عادل، كفاح من أجل الحياة الحرة الكريمة، كفاح يشق طريقه بسرعة إلى النصر على ضوء نور الحرية التي أشرقت في هذا العصر على جميع الشعوب في كل مكان من المعمور. إن نور الحرية المشرق الوهاج كنور الشمس هو الذي يقود الشعوب في كفاحها، هو الذي ينير مسالك الطريق للشعوب نحو تحقيق أهدافها وهو نور قوي لا يمكن حجبه ولا يمكن احتكاره ولا يمكن إطفاؤه لأن هذا النور يستمد قوته من إرادة التاريخ ومن سنة التاريخ.
هذه هي الحقيقة. ونحن نهديها لأنفسنا أولا لنكون واثقين من النصر، ونهديها ثانيا لمن يجهلها ليكون على بينة من الأحداث وفلسفة الأحداث، ليكون على بينة من سنن التاريخ، التاريخ الذي لا يرجع إلى الوراء أبدا والذي تصنعه الشعوب بإرادتها ودمها ودموعها وعرقها. إن نور الحرية قد أشرق على كل بقعة من بقاع العالم، وهو نور يقود الشعوب نحو مستقبلها. فعلى أعداء الشعوب في كل مكان أن يتركوا الشعوب تشق طريقها حتى تستنشق نسيم الحرية صاحيا خاليا من كل وسخ، فتبقى قلوبنا صافية صفاء هذا النسيم لا حقد ولا ضغينة ولا ذكريات سوداء». (ابن البلد).
ولكن الأمور لم تسر في الاتجاه الذي ينسجم مع قرار إطلاق سراح المقاومين وتصفية الأزمة. ذلك أن خصوم الاتحاد كانوا قد عبؤوا جميع إمكانياتهم عندما علموا بعزم الملك الراحل على تصفية الأزمة وإطلاق سراح المقاومين. وربما أنهم لم يستطيعوا ثني الملك عن قراره فقد عملوا بكل الوسائل على أن يكون ثمن ذلك هو إقالة حكومة عبد الله إبراهيم أولا، حتى لا يبدو وكأن «الاتحاديين» ـ حسب تعبيرهم ـ قد انتصروا على ولي العهد الذي كانوا أقحموه في صراع مكشوف مع هذه الحكومة. وهكذا مارسوا ضغوطا على ولي العهد نفسه لكي يقنع أباه بإقالة حكومة عبد الله إبراهيم أولا! ولكي ينجحوا في مسعاهم طلبوا من ولي العهد أن يقترح على الملك الراحل رئاسة حكومة وطنية بنفسه وإسناد النيابة عنه لولي العهد، وإشراك الاتحاديين فيها، في شخص عبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد نفسيهما مع آخرين.
ومع أن هذا الاقتراح قد قدم كـ«حل وسط» فإن الملك محمد الخامس لم يستسلم لتلك الضغوط التي كان قد أخذ يتبين حقيقتها وما يمكن أن تقود البلاد إليه من نتائج لا تحمد عقباها. لقد كان (رحمه الله) يثق في كل من عبد الله إبراهيم وعبد الرحيم بوعبيد من جهة، وكان شديد الحرص على شعبيته وسمعته لدى الجماهير من جهة أخرى، وكان يعرف جيدا المنشأ الوطني لكل من عبد الرحيم بوعبيد وعبد الله إبراهيم والمنشأ الوطني لخصومهما من أمثال كديرة وغيره، وقد سبق له أن خاض معركة طويلة مع سلطات الحماية وأعوانها فكان ذا تجربة غنية في هذا الموضوع، إضافة إلى وطنيته وميوله التحررية.
ومع ذلك كله فقد استطاع خصوم الاتحاد أن يواصلوا «مشوارهم»، كما سنرى في الفصل القادم.
خامسا: المؤامرة الكبرى لتصفية الاتحاد
ـ «كديرة خادم مولاه»! ومؤامرة 16 يوليوز 1963
واصل خصوم الوطنية والتحرر داخل دار المخزن مناوراتهم ومؤامراتهم بهدف إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم، فلجؤوا إلى الكذب على الملك الراحل محمد الخامس، وإلى استعمال مختلف الأساليب «المخزنية» البائدة التي كانوا يتقنونها وسلكوا أساليب شيطانية رخيصة هم وعملاء الاستعمار وأصحاب المصالح والحاقدون والموتورون ـ وجميع هؤلاء كانت أسماؤهم و«أخبارهم» معروفة لدينا، منهم من انتقل إلى دار الجزاء ومنهم من ينتظر ـ فعلوا ذلك للتأثير في ولي العهد ووضعه في قفص. (وقد سبق له (رحمه الله) أن استعمل ذات يوم في حديث مع بعض قادة الاتحاد هذه العبارة: «أنا في قفص»!) وفي النهاية نجحوا في مسعاهم إذ أعلن جلالة محمد الخامس في 24 مايو 1960 أنه قرر أن يقيل رئيس الحكومة وينيب عنه في مزاولة شؤونها الأمير ولي العهد.
ومع أننا سنفصل القول في هذه التطورات فإنه من الضروري الإشارة هنا إلى المعطيات التالية:
1 ـ اعتذر الاتحاد عن المشاركة في الحكومة الملكية التي ضمت جميع الأحزاب بما في ذلك حزب الاستقلال الشيء الذي رفع الغطاء عن دائرة الصراع، خصوصا عندما صار كديرة «صاحب الوقت» بكيفية علنية، وصار الاتحاد مستهدفا رسميا.
2 ـ لم تمر سنة حتى تم الإعلان بكيفية فاجأت الجميع عن وفاة الملك محمد الخامس إثر عملية بسيطة قال كثير من الأطباء آنذاك إنها لم تكن ضرورية.
3 ـ ومع وفاة الملك محمد الخامس قام المرحوم الحسن الثاني باستشارات واسعة مع الأحزاب حول طبيعة المرحلة. فكان جواب الاتحاد شفاهة ثم كتابة، واضحا وحاسما. لقد طرح بصراحة أن هناك اختيارين لا ثالث لهما: إما الحكم الفردي، وإما الحكم الديمقراطي. وقد اختار جلالته الحكم الفردي، وتبريره. ومنذ ذلك الوقت ونحن نستعمل عبارة «الحكم الفردي» في صحافتنا وأدبياتنا الحزبية.
4 ـ دخل المغرب إذن مرحلة الحكم الفردي المعلن والرسمي، وصار خصوم الاتحاد هم خصوم الديمقراطية رسميا. وتكرس هذا الاختيار مع تعيين أوفقير وزيرا للداخلية، فاتخذ مسلسل القمع مجرى أوسع وأشمل.
5 ـ ذلك من جهة، ومن جهة أخرى يجب التذكير بأن المقاومين الذي قاموا بردود أفعال عنيفة أثناء الحملة التي شنت عليهم في فبراير 1960 بتهمة «التآمر على ولي العهد»، كما بينا، لم يكن قد شملهم قرار «إطلاق السراح» الذي اتخذه محمد الخامس في يونيو 1960، بل تركوا يواجهون المحاكمة. ويتعلق الأمر بصفة خاصة بالقائد البشير، الذي تحدثنا عنه قبل، وبالمقاوم بن حمو المعروف بـ «الفخري» الذي كان قد اشتبك بالسلاح مع رجال الشرطة بالدار البيضاء في إطار ردود الفعل المشار إليها، وكان قد اعتقل ثم حوكم وصدر في حقه هو وثلاثة من رفاقه الحكم بالإعدام يوم 19 غشت 1961. وعلى العكس مما كان منتظرا عمد الحكم الفردي إلى تنفيذ الإعدام فيهم يوم 24 يناير 1962، مما أثار موجة من السخط عميقة لم يسبق لها مثيل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى