سري للغاية

الجابري: «هكذا اعتذر بوطالب للملك عن الالتحاق بالمجلس الدستوري بصفة شخصية»

اعتذر الأستاذ بوطالب عن الالتحاق بالمجلس المذكور بصفة شخصية وطلب من الملك عرض الأمر على قيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، وفعلا طلب جلالته من الكتابة العامة للاتحاد اقتراح ثلاثة أشخاص يختار جلالته واحدا منهم لعضوية المجلس. فجاء الجواب الأول من المؤتمر الإقليمي بالرباط الذي كان مقررا انعقاده في فاتح سبتمبر، وقد انعقد فعلا برئاسة عبد الله إبراهيم وأصدر بلاغا يعلن فيه عن رفضه لكل دستور لا يضعه مجلس تأسيسي منتخب.
شنت «الرأي العام» حملة قوية على هذا المجلس، وقد حجزت أربع مرات بسبب ذلك، كما مورست ضغوط على مديرها السيد أحمد بنسودة وعلى الأستاذ عبد الهادي بوطالب فجمدا نشاطهما داخل الاتحاد، ثم احتجبت «الرأي العام» بطلب من مديرها وعادت «التحرير» للصدور.
نصب جلالة المرحوم محمد الخامس مجلس الدستور ـ الذي قاطعه الاتحاد يوم 7 نونبر 1960. وبعد شهرين اجتمع لانتخاب رئيسه فحصل علال الفاسي على الأغلبية ضد منافسه امحمد الزغاري والي بنك المغرب. بعد إعلان النتيجة انسحب كل من أحرضان هو وأعضاء حزبه، والرشيد ملين باسم الأحرار المستقلين والسيد معنينو باسم حزب الشورى والاستقلال. وكان السيد محمد بلحسن الوزاني قد انسحب من عضوية هذا المجلس قبل انعقاده، معللا انسحابه بكون هذا المجلس «غير مطابق لمبادئ ومناهج الديمقراطية الدستورية»، كما قال في برقية الاستقالة. وهكذا ولد هذا المجلس ميتا.
ثانيا: وفاة محمد الخامس ومذكرة تاريخية!
كان وقع فشل المجلس الدستوري كبيرا على المرحوم الملك محمد الخامس، خصوصا وقد جاء الفشل، لا بسبب مقاطعة الاتحاد وحسب، بل أيضا لأن نسف هذا المجلس جاء من الأطراف التي تعارض الاتحاد وتشكك في نواياه! لقد كان من المتوقع أن ترشيح امحمد الزغاري المعروف بعلاقته مع القصر، سيحمل الباقي على عدم منافسته حتى تنجح العملية. ولكن ترشيح علال الفاسي نفسه ونجاحه بأغلبية كبيرة ضد الزغاري قد كشف النقاب عن تناقضات لم يكن من الممكن السيطرة عليها. ومن أجل «تجاوز» هذه التناقضات ـ تجاوزا سلبيا ينسف العملية برمتها ـ كان هناك طريق واحد هو انسحاب «الخصوم التقليديين» لحزب الاستقلال: المحجوبي أحرضان زعيم الحركة الشعبية، ومعنينو عن حزب الشورى، وخصوصا الرشيد ملين (أي كديرة مدير ديوان ولي العهد) عن الأحرار المستقلين.
أدرك جلالة محمد الخامس حقيقة الأمر وأخذ يفكر في معالجة الأزمة من أسبابها الحقيقية، وقر رأيه في الأخير ـ بعد استشارات غير معلنة كان من جملتها استشارة أعضاء من قيادة الاتحاد ـ أن يجعل حدا لمسلسل التناور والتآمر الذي أدى بالمغرب إلى وضعية الأزمة. وبينما هو يفكر في الأمر إذ وقع الإلحاح عليه لإجراء عملية جراحية بسيطة كان كثير من الأطباء المغاربة وغيرهم لا يرون ضرورة في إجرائها. ولكن حكم الأقدار لم يكن من الممكن رده، لقد دخل المصحة لإجراء العملية وفي نيته تغيير الوضع بعد تماثله للشفاء ـ كما أبلغ ذلك قيادة الاتحاد. غير أنه حدث ما لم يكن في الحسبان, إذ اختطفته المنون أثناء العملية، وذلك في 2 مارس 1961.
وبمناسبة وفاة الملك الراحل أصدرت الكتابة العامة يوم 2 مارس 1961 بلاغا تعبر فيه عن رأي الاتحاد في مسألة الحكومة وإمكانية مشاركة الاتحاد فيها. يقول البلاغ بعد عبارات الأسى التي تخص المناسبة:
إن الكتابة العامة بعد دراستها للوضعية المستجدة قررت: «مواصلة المساعي مع جميع الهيئات السياسية قصد تحقيق وحدة العمل على أساس النقطتين التاليتين:
1. انتخاب مجلس تأسيسي (في زمن) لا يتعدى المدة اللازمة من الوجهة الإدارية لتنظيم هذا الانتخاب. 2 ـ تأسيس حكومة انتقالية يكون من جملة مهامها تنظيم هذا الانتخاب، على أن تحدد في نص قانوني السلطات التي يجب أن تكون لهذه الحكومة حتى تستطيع أن تقوم بمهامها وتكون لها المسؤولية الحقيقية أمام الملك وأمام الرأي العام».
تولى الأمير ولي العهد العرش بعد وفاة والده ونصب باسم الحسن الثاني (بعد جده الأعلى الحسن الأول). كان أول عمل قام به هو استقبال ممثلي الأحزاب يطلب منهم رأيهم في الأوضاع. كان وفد الكتابة العامة للاتحاد الوطني يتألف من عبد الرحيم بوعبيد ومحمد البصري وعبد الرحمان اليوسفي والدكتور بلمختار، وقد جرت المقابلة بعد خمسة أيام من وفاة المرحوم محمد الخامس. شرح الوفد الاتحادي وجهة نظره بكل صراحة لجلالة الملك الجديد. وبعد الاستماع إلى الوفد الاتحادي طلب جلالته أن يرفع له الاتحاد مذكرة يقدم فيها رأيه كتابة. وقد قدمت الكتابة العامة للاتحاد الوطني لجلالته مذكرة تاريخية تطرح فيها الاختيار بين الحكم الدستوري الديمقراطي وبين الحكم الفردي، مؤكدة على ضرورة الاختيار الديمقراطي. وفي ما يلي نص هذه المذكرة التاريخية:
«الحمد لله وحده
إلى صاحب الجلالة الحسن الثاني،
وفقا للمقابلة التي تفضلت بها جلالتكم بتاريخ 8 مارس 1961، والتي أتاحت لوفد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية أن يشرح لجنابكم العالي مقررات هيئاته المسؤولية حول الوضع الراهن، نتشرف بأن نقدم لكم اليوم نص هذه المقررات، راجين أن نكون هكذا قد ساهمنا في خدمة الصالح العام وتحقيق مؤسسات تمثيلية ديمقراطية تضمن سير البلاد في استقرار وجد وفعالية. والاتحاد الوطني يريد بهذه المذكرة الوجيزة تأكيد بعض الاعتبارات التي سبق لوفده أن عبر عنها أمام جلالتكم أثناء المقابلة المذكورة أعلاه.
1ـ يرى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية أنه لا مناص لنظام ملكي يتوخى الاستقرار والاستمرار على تقاليدنا الصالحة، من إنشاء مؤسسات تمثيلية تلبي رغبة الشعب الأكيدة في المشاركة في الحكم ومراقبة أعمال الحاكمين، وبذلك يصبح المجتمع المغربي مجتمعا مسؤولا يمارس مسؤولياته في السياسة الداخلية والخارجية بواسطة ممثليه المنتخبين.
نعم هناك نظرية تقول بوضع نظام رئاسي أو فردي للحكم، مدعية أن التخلف الاقتصادي الذي يستوجب مجهودات جبارة متوالية لا يسمح بإنشاء نظم ديمقراطية. وتعتمد هذه النظرية على النظم التي أسست عند غيرنا من الأقطار حديثة العهد بالاستقلال. ونحن نرى في هذا الاتجاه خطأ، لأن المقابلة بين المغرب والأقطار المذكورة ليست مقابلة صالحة في جميع وجوهها. فالنظام الرئاسي أو الفردي هو، بطبيعته القانونية، نظام مؤقت في الزمان، ويتعرض صاحبه إلى مسؤولية خطيرة قد ينجح في ممارستها كما يمكن أن يحكم عليه بالفشل. وعلى أية حال ينتهي النظام بانتهاء مدة التفويض, أو بانسحاب مسؤوله الأول. وهكذا يتجلى الفرق الشاسع بين الوضع المغربي الذي يريد استمرار نظامه الملكي وبين غيره من الأقطار التي أسست نظم بلادها على حكم جمهوري.
2 ـ كثيرا ما تردد بعض الهيئات السياسية أن الغاية المتعلقة بوضع دستور وديمقراطية هي غاية مشتركة لسائر التيارات الموجودة بالمغرب، لا جدال فيها، وأن الطريق التي تسمح بوضع الدستور لا تستلزم حتما أن ينتخب مجلس تأسيسي. والاتحاد الوطني يرى في هذه الوجهة من النظر مغالطة أو خطأ. فالطريق التي يقع عليها الاختيار لوضع الدستور ليس وسيلة تطبيقية لمبدأ لكنها هي نفسها مبدأ. وقيمة المؤسسات مرتبطة بقيمة الطرق التي استعملت لإنشائها. فالمجلس المنتخب هو تجاوب حقيقي بين الملك الذي قر عزمه على أن يصبح الشعب مقررا للنظم الاقتصادية والاجتماعية والإدارية وبين الشعب الذي يشعر بكامل مسؤولياته دون تقييد ولا تحفظ.
أما في ما يرجع للهيئة الحكومية، فإن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية يرى من الضروري أن تؤسس هذه الهيأة على أسس تجعلها قادرة على تحمل مسؤولياتها أمام الملك وأمام الرأي العام, في انتظار تنظيم علاقاتها بصفة أدق وأكمل عندما يصبح دستور البلاد في حيز التطبيق. وبلاغ الاتحاد الوطني للقوات الشعبية يحدد ما نراه ضروريا من اختصاصات للهيئة الحكومية في الطور الانتقالي الذي ينتهي بانتهاء انتخاب مجلس تأسيسي لوضع الدستور. ونحن نؤكد بكل صراحة أن فكرة الاستمرار التي تسود كل نظام ملكي تتنافى كل المنافاة مع ممارسة الحكم مباشرة من طرف جلالة الملك، وأن عواقبها خطيرة بالنسبة لاستقرار البلاد، وأن من يقول بهذا الأسلوب في الحكم المباشر إنما يريد أن لا يتحمل مسؤولية منصبه أمام رئيس الدولة وأمام الرأي العام المغربي.
هذا وإن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ليرى في ثورة الملك والشعب، التي كانت نقطة الانطلاق التاريخي في تحرير البلاد من السيطرة الاستعمارية، ميثاقا حيا مستمرا يتلخص مدلوله في الثقة الكاملة المتبادلة بين الملك والشعب. والثقة في تاريخ الشعب لا تأتي من الأسفل إلى الأعلى فقط، لكنها يجب في ظروف معينة أن تأتي من الأعلى إلى الأسفل حتى يتم التجاوب الحقيقي الصادق. ولا طريقة لذلك إلا بسن انتخابات حرة عامة تخرج البلاد من الخلط والغموض وتمنحها مؤسسات حرة تكون الضمان الحقيقي للاستقرار والنظام».
حرر في 13 مارس 1961. عن الكتابة العامة للاتحاد الوطني للقوات الشعبية. عبد الرحمان اليوسفي.
كان لا بد من انتظار قرار الملك في شأن مذكرة الاتحاد، وكان لا بد من انتظار مرور الذكرى الأربعينية لوفاة الملك الراحل. وعندما مرت هذه الذكرى كان لابد من كسر الصمت، فكتبت في ركن «صباح النور» يوم 7 أبريل 1961 التعليق التالي:
يقول التعليق:
«مرت أربعون يوما على وفاة الملك الراحل محمد الخامس وهي أيام ليست كسائر أيام الله! مرت طويلة عريضة لأنها لم تكن أياما عادية وإنما كانت أياما وليالي، بل ساعات، طويلة ممزوجة بهول الفراغ الكبير الذي خلفته وفاة الملك الراحل. لقد كانت أياما حبلى، أو هكذا ينظر إليها على الأقل. وكانت هذه نظرة الملاحظين الأجانب على الخصوص. والواقع أن بعض الأحداث تضطر المرء إلى الوقوف قليلا، ولكن المسافر لا بد له أن يتابع الطريق ما دام مقصده وغايته واضحين.
والجماهير الشعبية التي تناضل من أجل حياة أفضل كان لابد أن تقف أمام هذا الحدث المؤلم، حدث وفاة محمد الخامس خصوصا وهو، أي الحدث، يجعل حدا فاصلا بين الماضي والمستقبل في تاريخ النضال الشعبي بالمغرب في العصر الحديث.
واليوم إذ تنتهي فترة الحداد وبعد أن جفف الشعب دموعه، والتفت إلى الوراء قليلا ليرى قيمة المرحلة النضالية التي قطعها، يتجه إلى الأمام لمتابعة النضال بوعي أكثر وأعمق ويقظة وحذر دائمين مستمرين»، عصام.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى