سري للغاية

الجابري يحدد القضايا الأساسية لبناء ديمقراطية اجتماعية بالمغربالجابري يحدد القضايا الأساسية لبناء ديمقراطية اجتماعية بالمغرب

إذن فمحاولة الطعن في الانتخابات والدستور بالرجوع إلى مصر قبل الثورة محاولة تضليلية تغطي واقع مصر الثورة وتتجاهل واضع الدستور في مصر قبل الثورة.
ومن الاعتراضات التي يدلي بها الحكام اليوم عن طريق الإذاعة أن بلادنا تتمتع بروح الديمقراطية وأن الذي ينقص هو الشكل, أي الانتخابات. وهنا نتساءل: هل بلادنا تتمتع حقا بروح الديمقراطية؟
إنهم حينما يقولون إن بلادنا تتمتع بروح الديمقراطية يستدلون على ذلك بحرية التعبير أي حرية الصحافة وحرية الأحزاب. ولكن هل حرية التعبير موجودة في بلادنا؟ الجواب: لا. فالقوانين التي تنظم حرية الصحافة في المغرب لا تعطي أي ضمان لحرية التعبير. فوزير الداخلية له الحق في إيقاف كل صحيفة بدون الرجوع إلى المحاكم ولا إلى أية هيئة أخرى. وقرارات الحجز الأخرى في يد وزير الداخلية يطبقها متى شاء وبدون أية مراقبة. ليس هذا فحسب, بل إن القانون الذي ينظم حرية الصحافة يفتح الباب أمام تهم القذف ومن ثم يفتح الباب واسعا أمام محاكمة الصحف. إن كل معارضة أو نقد تقوم به صحيفة لا تناصر الحكام يمكن تأويلها إلى قذف، ومن ثم تقام الدعوى ضد الجريدة. وهكذا لا يكاد يمر شهر واحد حتى تقيم الدولة دعوى أو دعاوى على هذه الجريدة: «التحرير». وقد أوضحنا في مقال نشرناه يوم ثالث أبريل الحالي تحت عنوان «الصحافة بين الواقع والقوانين»، أوضحنا بإسهاب كيف أن حرية التعبير مفقودة في بلادنا وكيف أن قانون الصحافة لا يعطي أية ضمانات. وحتى لو فرضنا أن حرية التعبير في مغرب اليوم تعتمد على ظهير أصدره رئيس الدولة، فمن يضمن بقاء هذا الظهير ما دام إصدار ظهير مضاد لا يتوقف إلا على مجرد إمضاء من رئيس الدولة نفسه. إن بقاء حرية التعبير، على فرض أنها موجودة، أو إلغاءها شيء يتوقف على إرادة فرد واحد هو الفرد الحاكم حكما فرديا.
حقا، إن صحف المعارضة في المغرب تستطيع الإدلاء بكثير من آرائها وانتقاداتها ولكن من يضمن بقاء هذا الحق: هل القوانين, أم المعارضة نفسها؟ إن جماهير الشعب في المغرب هي التي تحمي مكتسباتها في حرية التعبير وهي التي تقف على استعداد للنضال ضد كل مس بهذا المكسب، ولولا هذه الحقيقة التي يدركها الحاكمون أحسن إدراك لما تماطلوا في تطبيق القوانين التي وضعوها والتي تعطي لوزير الداخلية الحق في إيقاف كل صحيفة يرى فيها ما يعتبره مسا بالأمن العام. وعلاوة على ذلك هل الديمقراطية هي فقط السماح للمعارضة بأن تدلي برأيها دون العمل بهذا الرأي ودون أخذه بعين الاعتبار؟ إن الدولة في المغرب تصم آذانها ولا تقابل رأي المعارضة وانتقاداتها إلا بحملات إذاعية وقحة، وهي حملات غريبة فريدة تكشف عن عجز الدولة وضعفها.
إن المستمع إلى إذاعة الدولة يعتقد أنها إذاعة حزب لا إذاعة دولة! إن الدولة في تعاليقها تجعل من نفسها خصما للمعارضة, أي خصما لقسم مهم من الشعب إن لم يكن للشعب كله. وهكذا تفقد الدولة استعلاءها ومن ثم تفقد احترامها. فهل من الديمقراطية أن تسب الدولة مواطنيها، أو على الأقل قسما منهم، من ميكروفونات الإذاعة الرسمية للدولة، إنه إذا كان في المغرب حرية في التعبير فهي تلك الحرية التي يسب بواسطتها معلق الإذاعة الشعب وممثليه السياسيين.
ويتحدثون عن الديمقراطية الاجتماعية ويحملون لواء الاشتراكية! ويقولون إن الديمقراطية الاجتماعية هي الأساس للديمقراطية السياسية، وهذا صحيح. ولكنها كلمة حق أريد بها باطل، كما يقول المثل. أما ما هو الحق وما هو الباطل في هذا الموضوع فذلك ما سنتطرق إليه في مقال مقبل».
4 ـ الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية
والمقال الرابع نشر يوم 25 أبريل 1962 تحت عنوانين: «الديمقراطية السياسية والديمقراطية الاجتماعية»، «إن الديمقراطية الاجتماعية هي الاشتراكية، والاشتراكية لا يحققها الإقطاع ولا يحققها الرأسمال، وإنما يحققها الشعب: الشعب الذي يحكم نفسه بنفسه».
يقول المقال:
«ويتحدثون عن الديمقراطية الاجتماعية ويقولون إن الديمقراطية السياسية لا يمكن أن تتحقق بصورة سليمة إلا على أساس من الديمقراطية الاجتماعية. وهذا كلام حق، ولكن يراد به باطل. قبل الكشف عن الباطل في هذا الكلام نريد توضيح معنى الديمقراطية.
الديمقراطية السياسية يقصد بها الديمقراطية بمفهومها الأصلي، أي حكم الشعب نفسه بنفسه عن طريق دستور وبرلمان وما ينتج عن ذلك من حريات في التعبير والتجمع وتأسيس الأحزاب والهيئات. وهذا موضوع شرحناه في مقال سابق. أما الديمقراطية الاجتماعية فالمقصود بها ديمقراطية العيش، أي العدالة الاجتماعية من تكافؤ في الفرص إلى تساو في الحقوق والواجبات. فالديمقراطية الاجتماعية تعني إقامة نوع من المجتمع الاشتراكي حيث يقضى فيه على الإقطاع وسيطرة رأس المال وحيث تنعدم فيه الامتيازات والمحاباة وغير ذلك من شرور المجتمع الرأسمالي والإقطاعي.
وما معنى الديمقراطية الاجتماعية، وحكام المغرب عندما يريدون التهرب من الديمقراطية السياسية أي الانتخابات العامة بالخصوص، يقولون إن الأحسن والأفضل هو إقامة ديمقراطية اجتماعية تضمن للجميع الخبز، ثم بعد ذلك إقامة الشكليات الديمقراطية أي الانتخابات والمؤسسات التمثيلية؟
ونحن هنا لا نريد أن ندخل في صراع نظري ونتساءل من الأسبق: الديمقراطية السياسية أم الديمقراطية الاجتماعية؟ وإنما نريد فقط أن نبين المغالطة والتضليل في هذا الموضوع. لنفرض جدلا أن هم الحكام اليوم هو إقامة الديمقراطية الاجتماعية، ثم تعالوا نبحث ماذا حققه هؤلاء الحكام في هذا الموضوع؟
لا شيء إطلاقا. بل إن الدولة تسير، تحت ضغط الواقع وبتشريعاتها الجديدة، إلى زج البلاد في نظام إقطاعي رأسمالي، يكون للأجنبي يد فيه. فالضرائب الفلاحية التي حلت محال الترتيب أصبحت في مصلحة الملاك الكبار وضد مصلحة صغار الفلاحين، والتشريعات الاقتصادية الجديدة كلها تخدم مصالح الرأسمال، سواء كان وطنيا, أو أجنبيا. بل إن بذور التحرر الاقتصادي التي زرعتها حكومة عبد الله إبراهيم قد أفرغتها حكومة الحكم الفردي من معناها ومحتواها. والشيء الوحيد الذي تريد به الدولة إيهام الناس بأنها تعمل من أجل ديمقراطية اجتماعية هي ما تسميه «التعبئة» وما تسميه «الإنعاش الوطني»! والمواطنون في حاضرة البلاد وبواديها يعرفون حقيقة هذا الذي يدعى «التعبئة» وحقيقة هذا الذي يسمى «الإنعاش الوطني»!
وبعد، فماذا ينبغي أن تفعله الدولة لو أنها تسعى حقا نحو إقامة ديمقراطية اجتماعية؟
إن إقامة ديمقراطية اجتماعية في المغرب تتطلب أمورا كثيرة منها هذه القضايا الأساسية:
1 ـ تصفية أراضي المعمرين بإرجاع الأراضي التي اغتصبها المعمرون وتوزيعها على الفلاحين الذين لا يملكون الأرض.
2 ـ تصفية الإقطاع وذلك بحجز أراضي الإقطاعيين من خونة ومتعاونين مع الاستعمار وغيرهم، وتوزيعها على الفلاحين الذين لا يملكون شيئا.
3 ـ تحديد الملكية في الأرض وذلك حتى يكون الناس في البادية متساوين، بحيث لا يبقى هناك من يملك ولا يحرث أرضه، ومن يحرث ولا يملك. إن الديمقراطية الاجتماعية أساسها: الأرض لمن يحرثها.
4 ـ إقامة تعاونيات فلاحية تشرف عليها الدولة وتمدها بالمساعدة اللازمة, سواء من حيث البذور أو آلات الحرث والحصاد أو الإعانات المالية الضرورية.
5 ـ توجيه الفلاحة توجيها وفق متطلبات البلاد حسب قابلية الأرض والتربة.
6 ـ تأميم القطاعات الصناعية الكبرى كالمعامل وشركات النقل الجوي والبحري وتأميم التجارة الخارجية.
7 ـ مراقبة الدخل القومي وعدم السماح بتهريب الأموال إلى الخارج.
8 ـ فسح المجال أمام تكافؤ الفرص بحيث يكون الناس سواسية في الحصول على العمل. فكل من له قدرة على عمل ما يعطى له ولا يعطى لمن دونه قدرة وكفاءة. وهذا يتطلب إلغاء الاعتبارات العائلية والنسبية والحزبية.
وبعبارة أخرى إن الديمقراطية الاجتماعية معناها: الاشتراكية. فهل تسعى الدولة المغربية إلى إقامة الاشتراكية في المغرب؟ سؤال مضحك والله! ومن يحكم المغرب غير الإقطاع والمصالح العائلية؟
وبعبارة بسيطة إن الديمقراطية الاجتماعية تعني إعطاء الخبز للشعب! وهل يعقل أن يعطي الحكم الفردي الخبز للشعب في حين يمانع في إعطائه الكلمة، والكلمة فحسب؟
إن الديمقراطية السياسية شيء أساسي وضروري في بلاد كالمغرب تنعدم فيها جميع مقاييس الحكم؟ ولا يمكن إقامة أي نوع من الديمقراطية الاجتماعية إلا إذا كانت هناك ديمقراطية سياسية سليمة. إن الديمقراطية الاجتماعية هي الاشتراكية كما قلنا، والاشتراكية لا يحققها الإقطاع ولا يحققها الرأسمال وإنما يحققها الشعب، والشعب الذي يحكم نفسه بنفسه. والشعب المغربي الذي يطالب بإعطائه الكلمة واع كل الوعي. ووعيه هذا واضح سيدفعه يوما إلى أخذ الكلمة إذا أصر الحكام على عدم إعطائها له. إن الشعب واع ووعيه فوق جميع المغالطات والتضليلات. والذين يتحدثون اليوم عن الديمقراطية والاشتراكية من على أبواق الإذاعة، إنما يسخرون من وعي الشعب ويضحكون على الجماهير. ولكن الجماهير الواعية تترك الضاحكين يضحكون والساخرين يسخرون، لأنها تعلم أن من يضحك اليوم على الشعب سيبكي غدا بكاء مرا».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى