سري للغاية

الجابري يحكي كيف تقدم وزير الاقتصاد للانتخابات البلدية فرفضه الشعب واختار مكانه رجلا بسيطا يبيع الفحم

أما الحقيقة التي لا يمكن أن تسترها الدعاية مهما بلغت من التدجيل، فهي أن الحاكمين اليوم وهم غائصون في تجربة حكم فردي، ومازالوا يعمقونها، لا ينوون مطلقا إقامة ديمقراطية حقيقية في البلاد. الديمقراطية التي أساسها المؤسسات التمثيلية، لأن الديمقراطية تتناقض مع واقعهم وطريقتهم في الحكم، وتتنافى كليا مع مصالحهم وما أكثرها من مصالح!
فالحديث عن الديمقراطية اليوم، وتشويه مفهومها بهذه الحملات إنما يقصد منهما تبرير الخيانة بالوعد الذي قطعه محمد الخامس رحمه الله على نفسه وأمام شعبه، وتبرير التملص من التأكيدات التي لجأ إليها الحكم القائم في أول عهده من أن الوفاء بوعود محمد الخامس هي أمانة على عنق خلفه.
من هنا نستطيع أن نفهم لماذا هذه الحملة على الديمقراطية للهجوم عليها، ومن ثم تشكيك الناس في الديمقراطية الحقيقية.
والآن بعد أن عرفنا الدافع الذي يدفع الحاكمين إلى الهجوم اليوم على الديمقراطية بعد تشويه مفهومها الحق، نعود لنكشف عن هذا التشويه الصبياني الذي لجأ إليه بعض صغار العقول في هذا البلد.
ماذا يقول هؤلاء المضللون؟
إنهم يبنون تضليلاتهم وتشويهاتهم للديمقراطية على أسس يزيدون فيها وينقصون حسب الحاجة. منها أنهم يقولون إن الديمقراطية الحقيقية في المغرب موجودة، لأن الديمقراطية في الحقيقة وفي النهاية هي الحريات العامة وخاصة حرية التعبير، وهذه كلها موجودة بالمغرب بشكل واسع. ويقولون إن الديمقراطية الحقيقية هي ضمان الخبز للجائعين, أي تنمية الاقتصاد الوطني. أما الانتخابات وما شاكلها فهي أمور شكلية نظرية. ويقولون إن الديمقراطية شكل وروح. أما الشكل فهو الانتخابات والمؤسسات التمثيلية التي لا فائدة فيها والتي كثيرا ما وجدت في بلدان ساد فيها الإقطاع والظلم. وأما الروح فهي حرية التعبير وهذه «موجودة» في المغرب… إلى آخر مثل هذه التأويلات التي وإن كانت تشير إلى جوانب من الديمقراطية، إلا أنه يراد منها أن يقتنع الناس بأنها الديمقراطية وكفى.
ونحن نعلم أن الحاكمين وأصحاب هاته التصريحات يعلمون أن ما يقولونه هو غير الحقيقة، وأنهم إنما يجتهدون في تشويه الحقيقة. وبما أن هؤلاء الحاكمين يتجاهلون معلوماتهم ويتجاهلون الحقيقة، فإننا سنفترض أنهم جهلاء أميون فنوضح لهم الديمقراطية على حقيقتها روحا وشكلا وغرضا ونتيجة.
فماذا تعني كلمة ديمقراطية؟
إنها كلمة يونانية معناها حكم الشعب نفسه بنفسه. وبما أن الشعب كمجموعة كبيرة من الأشخاص لا يمكن من الناحية العملية أن يحكم نفسه بنفسه، فإنه ينتخب بكل حرية أفرادا لينيبهم عنه ليحكموا باسمه وتحت مراقبته الدائمة. وهكذا يكون مفهوم الديمقراطية هو أن الشعب يختار من يحكمه، ثم يراقبه ويحاسبه ويوجهه. وطريقة ذلك إجراء انتخابات عامة لتكوين برلمان ينتخب هو الآخر حكومة. الشعب يراقب البرلمان، والبرلمان الذي هو ممثل الشعب يراقب الحكومة ويوجهها. وبموجب هذه الطريقة يحكم الشعب نفسه بنفسه. يبقى بعد ذلك: ما هي الأسس التي سينتخب عليها البرلمان وما هي الأسس التي ستتكون عليها الحكومة وما هي علاقات أجهزة الحكم بعضها ببعض؟ وهذه كلها قوانين أساسية يضعها الشعب بنفسه عن طريق انتخاب أناس ينيبهم عنه للقيام بهذه المهمة، مهمة وضع قوانين الحكم أي الدستور. وانتخاب هؤلاء الناس هو ما نعني بانتخاب مجلس تأسيسي لوضع الدستور.
إذن لكي تكون هناك ديمقراطية، أي لكي يحكم المغرب نفسه بنفسه، يجب أولا أن ينتخب الشعب المغربي مجلسا تأسيسيا يضع الدستور، ثم ينتخب برلمانا يشكل الحكومة ويراقبها ويوجهها. من هنا نرى أن الديمقراطية تعود في الأخير إلى معناها الأصلي وهو حكم الشعب نفسه بنفسه. وطبيعي أن الشعب الذي يحكم نفسه بنفسه يعطي لنفسه حرية التعبير وغيرها من الحريات، كما يبني مستقبل بلاجه كما يريد ويشاء هو، لا كما يريد ويشاء الحاكمون، كما يعطي لنفسه الخبز والماء والكساء والعلم.
ولكن هل يجهل الحاكمون اليوم هذه المبادئ الأولية؟
الجواب: لا. إنهم يعرفونها جيدا، ولكنهم يخافونها. هم يخافون هذه الحقائق، أي يخافون الديمقراطية الحق لأنهم يؤمنون بأنهم إذا أعطوا الكلمة للشعب فإنه لن يختارهم، ومن ثم لن يصبحوا حاكمين. وخوفهم من إعطاء الكلمة للشعب ليس ناتجا عن تشاؤم أو تخيل وإنما ناتج عن تجربة وواقع. فوزير الاقتصاد الحالي قدم نفسه أمام الشعب ليختاره في الانتخابات البلدية, ولكن الشعب رفضه واختار مكانه رجلا بسيطا يبيع الفحم. ووزير الشغل والشؤون الاجتماعية قدم هو الآخر نفسه في نفس الانتخابات فرفضه الشعب واختار مكانه شخصا آخر أبعد ما يكون عن الحكم والاستوزار. والسيد أحمد العلوي، وزير الأنباء الذي يقود هذه الحملة ضد الانتخابات، لن يختاره الشعب إذا قدم نفسه، وربما بفضل الشعب عليه «كرابا» (بائع ماء), أو ماسح أحذية.
وعلال، الزعيم الرئيس، يعلم أنه هو أيضا لن ينجح في الانتخابات إذا تقدم في مقر سكناه الحالي، لذلك فضل منذ أول الأمر أن يعين رئيسا لمجلس سمي مجلس الدستور، إلى جانب من عينوا معه، ومنهم من هم له أعداء تقليديون، ومنهم من لهم سوابق ضد الوطنية التي كان الزعيم يتزعمها. لقد ارتضى لنفسه النزول إلى ذلك الدرك لأنه يعرف أن الشعب لم يعد يثق فيه وأن انحرافاته قد انكشفت. وحتى هذا المجلس المعين قد مات في المهد وبقي رئيسه بدون رئاسة إلى أن واتته الفرصة ورضي أن يعين وزيرا بدون وزارة إلى جانب أناس آخرين هم وزراء ولهم وزارات مهمة وكانوا إلى عهد قريب ألد أعداء السيد الزعيم.
المهم من كل ذلك هو أن هؤلاء الذين يشوهون الديمقراطية إنما يفعلون ذلك لأنهم يعرفون أن الديمقراطية الحقيقية، وهي حكم الشعب نفسه بنفسه، ستزيلهم عن كراسي الحكم. هذا من حيث الأشخاص. أما من حيث الأحزاب فإن هذه الأحزاب التي تهاجم الديمقراطية، أو لا تتحمس لها على الأقل، هي أحزاب / أشخاص فقط، وليس لها من جماهير الشعب ما يؤيدها. لذلك فإن مجرد إجراء انتخاب عام سيزيل الستار عن حقيقة هذه الأحزاب ومن ثمة يبقى هؤلاء المتزعمون وحدهم يدورون في الهواء. فمن مصلحة هذه الأحزاب / الأشخاص فهذا ما يحتاج إلى كلام طويل عريض ولعلنا سنعود إلى الموضوع لنبين للناس لماذا تتهرب الدولة ـ دولة الحكم الفردي ـ من الديمقراطية الحقيقية التي تعني إجراء الانتخابات».
2 ـ من شكليات الديمقراطية إلى الحكم الفردي
المقال الثاني نشر يوم 22 أبريل تحت عنوانين: «موقف الدولة من الديمقراطية»، «من شكليات الديمقراطية إلى الحكم الفردي».
يقول المقال:
في مقال سابق أشرنا إلى الحملة التشويهية التي يقوم بها أشخاص في الدولة ضد الديمقراطية، والأضاليل التي يريدون بها إيهام الناس أن الديمقراطية هي ما يقولون لا ما هي عليه في الحقيقة والواقع. وقد كشفنا عن أسباب وعوامل هذه الحملة التي جاءت اليوم ونحن في منتصف سنة 1962 التي قيل عنها إنها سنة الدستور والمؤسسات التمثيلية. وقد أوضحنا لماذا يهاجم هؤلاء الأشخاص/ الوزراء الديمقراطية ولماذا تخاف منها الأشخاص/ الأحزاب.. بقي بعد ذلك أن نبين موقف الدولة من الديمقراطية وأسباب الحملة التضليلية التي تقوم بها ضد الديمقراطية من على أبواق «إذاعة المملكة المغربية» اللسان الرسمي الناطق باسم الدولة.
فما هو موقف الدولة من الديمقراطية؟
إننا نعني هنا بالديمقراطية المفهوم الحقيقي للكلمة، المفهوم الذي شرحناه في مقال سابق ـ وهو حكم الشعب نفسه بنفسه. وقد لا نكون في حاجة إلى طرح هذا السؤال إذا جعلنا نصب أعيننا هذا المفهوم الحقيقي للديمقراطية وقارناه بالواقع الحي في بلادنا. ولكن أمام حملات التضليل لابد من وضع النقط على الحروف حتى وإن كان الواقع يضعها بنفسه كل يوم.
إننا لن نكون مغالين إذا قلنا إن الدولة المغربية، أي الحاكمين، هم اليوم ضد الديمقراطية شكلا وروحا، وإن النظام القائم والأسلوب الذي يحكمون به نظام وأسلوب غير ديمقراطي. فالحكم حكم فردي موغل في الفردية. وكلما تقدمت بنا الأيام إلا واتضح مدى عداء الدولة للديمقراطية وأساليبها وخوفها منها. لقد كان للبلاد غداة الاستقلال نظام يمكن أن نقول عنه إنه شبه ديمقراطي، إذا أخذنا بالاعتبار جانب كونه مرحلة أولية في سبيل الديمقراطية الحق.
كان للبلاد مجلس وطني استشاري، وهذا المجلس وإن كان معينا فإنه كان يمثل على كل حال بعض جهات الرأي العام. ورغم أن هذا المجلس لم يكن يتمتع بأية سلطة على الحاكمين، فإنه كان على كل حال منبرا يبدي فيه بعض أبناء الشعب رأيهم في القضايا الوطنية، مثل الميزانية والسياسة الخارجية وغير ذلك.
وعلاوة على هذا المجلس الاستشاري كان الحاكمون لا يتخذون أي قرار في القضايا الوطنية إلا بعد استشارة الهيئات السياسية والنقابية والمهنية. وسواء عمل بهذه الاستشارات أم لم يعمل بها فإنها كانت على كل حال تعطي بعض الاعتبار للشعب ولممثليه السياسيين على الصعيد الحزبي.
وفوق هذا وذاك كانت الحكومة تؤلف في البلاد ضمن الهيئات والأحزاب وكان رئيس الحكومة وبقية الوزراء أشخاصا سياسيين يمثلون نزعات سياسية بغض النظر عن القيمة التمثيلية لهؤلاء وللنزعات التي يتحدثون باسمها. وأهم من ذلك كان رئيس الدولة بعيدا على الأقل من الناحية الشكلية المظهرية عن النزعات السياسية, حيث لم يكن رئيس حكومة. فرئاسة الدولة كانت مفصولة عن رئاسة الحكومة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى