سري للغاية

الجابري يقارن خطط القضاء على الديمقراطية بين الاستعمار وبداية الاستعمار

هذه الحلقات عبارة عن مقتطفات من سلسلة مقالات وحوارات للراحل، الكاتب والمفكر وعالم الاجتماع محمد عابد الجابري، الذي كان ينشرها في سلسلة باسم «مواقف»، وهي عبارة عن مذكرات سياسية وثقافية تؤرخ للحركة الوطنية، كما تعكس مراحل تطور الوعي العربي بصفة عامة، إذ تغطي المدة الفاصلة بين سنتي 1959 و2002، وما عاشه خلالها عابد الجابري في مساره السياسي والفكري.. قبل تجميعها في كتاب «في غمار السياسة.. فكرا وممارسة». وعن هذه النصوص يقول الجابري في مقدمة الكتاب: «إنها ثلاثة أصناف: صنف ينتمي إلى المذكرات السياسية، وصنف يعرض مواقف فكرية وثقافية، وصنف يقع على ضفاف السيرة الذاتية… وفي هذه الأصناف الثلاثة سنبحر من خلال الحلقات التي بين أيدينا.
سادسا: بعد هذا هل في المغرب حرية صحافة؟
أمام تحكم وزير الداخلية في الصحافة وحقه في الحجز والتوقيف والمراقبة، وأمام خضوع القضاء لمشيئة السلطة التنفيذية كما يبرهن على ذلك الواقع، وأمام عدم وجود مؤسسات تمثيلية تجد فيها المعارضة مجالا للإدلاء برأيها، هل يمكن القول مع ذلك إن في المغرب حرية صحافة؟ إن الجريدة، أمام كل ذلك، ليس لها لكي تبقى سالمة، إلا أن ترضي الحاكمين وتتجنب كل ما قد لا يعجبهم وهذا يعني موت صوت المعارضة!
وزيادة على ما في قانون الصحافة من تضييق على حرية الصحافة، فإن هذا القانون لم يطبق إلا على صحافة المعارضة. وهكذا لم تتقدم السلطة التنفيذية بدعاوى ضد جريدة أخرى رغم أنه يوجد فيها باستمرار ما يعتبره الحاكمون في ما لو نشر في «التحرير»، مثلا، مسا بالأمن العام. بل إن وجود جريدتي «لوبوتي ماروكان» و«لافيجي» وجود غير قانوني. ولو طبق قانون الصحافة (فصل 12) لأوقفت هاتان الجريدتان بصفة آلية لكون أصحابهما غير مغاربة. ولكن هاتين الجريدتين موجودتان رغم القانون لأنهما خاضعتان للسلطة التنفيذية وتأتمران بأمرها. وإذا حدث أن خالفتا إرادة الحاكمين، فإن عقابهما هو تأديبهما بتوقيفهما مدة يومين، ثم تعود هاتان الجريدتان كما كانتا يدا طيعة في يد السلطة الحاكمة.
إن حرية الصحافة غير مضمونة ومع ذلك فإن هذه الجريدة «التحرير» فرضت نفسها رغم الدعاوى والغرامات ومختلف التحكمات. والذي تفتخر به هذه الجريدة هو أنها لم تتعرض يوما لشكوى من طرف أي مواطن غير حاكم، فلم يحدث أن أقام أي شخص غير أشخاص الدولة دعوى القذف على «التحرير»، مع أن القانون وضع لحماية الأشخاص / المواطنين لا الدولة وحدها.
وفي هذا ما يدل على أن جميع المحاكمات التي تعرضت لها هذه الجريدة هي محاكمات سياسية التجأت إليه الدولة تحت ستار القذف، وهو ستار واه لا يخفي الحقيقة الناصعة حقيقة الحكم الفردي في هذه البلاد».
سابعا: خطة لإعطاء «الديمقراطية» بعد القضاء على المعارضة!
بعد هذا المقال واصلنا الرد على الحملة التضليلية ضد الديمقراطية التي شنها الحكم الفردي على أمواج الإذاعة الوطنية وعلى صفحات جريدتي وزير الأنباء أحمد العلوي، كرد فعل على تنديدنا بالحكم الفردي.
1 ـ تصفية الديمقراطيين قبل الشروع في الانتخابات!
في ركن «صباح النور» ليوم 19 أبريل 1962، كتبت ما يلي:
«لماذا يتماطل الحاكمون في إعطاء الكلمة للشعب؟ ولماذا يحاول بعضهم أن يفسر الديمقراطية تفسيرا مضللا مشوها؟ ولماذا لا يوافقون على انتخاب مجلس تأسيسي يضع دستورا يعتبر الشعب مصدر السلطات؟
ونستطيع أن نطرح «لماذات» كثيرة أخرى حول سلوك المسؤولين، لكن الذي يهمنا الآن هو قضية الديمقراطية.
إن التآمر الذي يدبر في الخفاء وتعد خطوطه في المكاتب الوثيرة ويفكر في مفاجأتنا وشعبنا به في يوم من الأيام يرمي في المدى البعيد إلى إعطاء الديمقراطية للاديمقراطيين.
خطة صبيانية يدبرها الحكام، ملخصها أنه يجب التريث حتى «يتم القضاء» على «عناصر الشغب والفوضى والهدم» للشروع في بناء الحياة الديمقراطية «الحق». إنه يجب انتظار تصفية العناصر الديمقراطية الحق قبل الشروع في الانتخابات أو تحضير الدستور.
فالحكام يعتقدون، والعملاء كذلك، أنه إذا ما وقعت انتخابات تشريعية فستحمل إلى البرلمان عناصر لن تتردد في فضح المتلاعبين بمصالح الشعب. وإذن فيجب تصفية هذه العناصر حتى لا يبقى في المغرب إلا المتملقون والوصوليون والانتهازيون وقوالو: «نعام سيدي.. نعام سيدي». حينئذ يصبح الجو مناسبا لإقامة الديمقراطية من النوع الذي عرفته أقطار شقيقة في عهود مضت: ديمقراطية مزيفة تكون وسيلة لاستغلال الشعب وتخديره وجعله مطية ذلولا للإقطاعيين والأصنام أنصاف الآلهة.
نفس الفكرة التي انطلق منها الاستعمار عندما شرع في مقاومة الحركة الوطنية، فجوان وكيوم وبونيفاس كانوا يعتقدون هم أيضا بأن اعتقال جماعة معينة من الناس يكفي لكي تنطفئ مرة واحدة شعلة الثورة. وكما أن حسابات جوان وكيوم وبونيفاس كانت خاطئة, فكذلك حسابات الإقطاعيين والرجعيين والمستوزرين خاطئة أيضا.
إن في الشعب معينا لا ينضب يمده بالقادة والعناصر التي توجه كل مرحلة من مراحل كفاحه. فليتأكدوا من الآن أن الأمل الذي يراودهم في القضاء على الاتجاه الديمقراطي السليم ستكون خاتمته المؤكدة: الخيبة والفشل والإخفاق، ولا شيء غير ذلك».
عصام
2 ـ تزييف الديمقراطية… ما أشبه اليوم بالأمس!
وفي 20 أبريل 1962 كتبت في نفس الركن ما يلي:
«عندما نتحدث عن مؤامرة محبوكة ضد الديمقراطية لا نطلق الكلام على عواهنه، فكل البوادر التي تبدو الآن في أفق المسرح السياسي تدل بالفعل على وجود خطة محكمة تهدف إلى ضرب الديمقراطية. وعندما نقارن هذه المؤامرة التي تجري في مغرب 1962 بتلك التي حدثت 1952 لا نفعل ذلك انسياقا وراء العاطفة أو بدافع من التلذذ بالمقارنة. إن كل مميزات الوضع الراهن في المغرب لا تختلف إلا قليلا عن الوضعية التي كانت سائدة في المغرب سنة 1952. ففي تلك المرحلة رفع كيوم الرقابة عن الصحف وبرزت إلى الميدان صحف جديدة كـ «القيامة والوداد والمطرقة والعزيمة». وظهرت أحزاب جديدة كـ«حزب الشعب» و«الحزب الإسلامي»…إلخ. ولم يكن القصد من هذا التسامح الكيومي إتاحة الفرصة للشعب كي يعبر عن رأيه ويوضح أفكاره, وإنما كان الهدف بالدرجة الأولى هو خلق جو ملائم لضرب العناصر الوطنية المخلصة.
نفس الشيء أيضا يحدث في المغرب اليوم! فهذا الكلام عن الديمقراطية وهذا التسامح مع الصحف وهذا التشجيع لبعض الجرائد والحركات السياسية لا يعدو أن يكون نسخة طبق الأصل من الخطة القديمة التي سار عليها الاستعمار. إلا أن الحديث عن الديمقراطية اليوم له أيضا علاقة بالتعديل الوزاري المنتظر. وإذا عرفنا أن الشخص المرشح لوزارة الداخلية يعتبر قريبا من حزب الاستقلال، ومعروف عنه أنه لا يتقن الأساليب الدبلوماسية وأن نزوات الشباب تسيره وتوجهه أكثر مما يهديه العقل والمنطق، إذا عرفنا ذلك أدركنا لماذا تلتقي الإذاعة وجريدة «العلم» في التركيز على الديمقراطية، وأدركنا أيضا مغزى انزعاج الجهازين المذكورين من المخاوف والشكوك التي نثيرها أحيانا حول «ديمقراطية الحكم». إنه ليؤسفنا أن يكون من بين أنصار الحكم الفردي اليوم، أصدقاء لنا بالأمس عاشوا معنا تجربة كيوم سنة 1952 وهم يدركون بدون شك ـ إذا خلوا إلى أنفسهم ـ أن تعدد الصحف وكثرة الكلام والأحزاب في ذلك العهد لم يكن يرمي إلى إفساح الحريات العامة أمام الشعب، وإنما كان يهدف إلى إضاعة الأصوات الوطنية في جلبة الضجيج المفتعل، يؤسفنا أن يكونوا اليوم قد قدموا جميع المبادئ قربانا على مذبح المصالح الضيقة. وعلى كل حال فإذا كانوا يريدون الاستفادة من التجربة السابقة، تجربة 1952 في تزييف الديمقراطية فليتأكدوا من أننا، نحن الذين عشنا تلك الفترة، لن نخدع، وأننا سنستفيد منها أيضا في الحاضر كما استفدنا في الماضي لإحباط أي مؤامرة ضد الديمقراطية».
ثامنا: فصل المقال في حقيقة الديمقراطية..
بعد هذين التعليقين، وأمام استمرار الإذاعة والصحافة الحكومية في شن حملة تضليلية على الديمقراطية، بدا لي أنه لا بد من كتابة مقالات تحليلية في الموضوع موجهة للجماهير الشعبية ولمناضلي الاتحاد قصد التوعية بحقيقة الديمقراطية، فكانت هذه السلسلة التي ننشرها أسفله. المقال الأول صدر في عدد 20 أبريل 1952 بعنوانين: «يشوهون الديمقراطية.. ليهاجموها! «الديمقراطية = حكم الشعب نفسه بنفسه».
ـ يشوهون الديمقراطية.. ليهاجموها!
يقول المقال:
«تشهد بلادنا هذه الأيام حملة تشويهية ضد الديمقراطية. وبما أن أصحاب هذه الحملة، وهم الحاكمون وأجهزة الحكم، لا يستطيعون مهاجمة الديمقراطية ككلمة أي كمفهوم، فإنهم يعمدون إلى التضليل بتشويه مفهوم الديمقراطية الحق ومهاجمته حينئذ على أساس هذا التشويه. وقبل أن نكشف عن هذا التشويه الخطير للديمقراطية نريد أن نتساءل: لماذا هذه الحملة الآن ضد الديمقراطية؟ ولماذا تجندت الدولة بوزاراتها وإذاعتها للحديث عن الديمقراطية قصد تشويه مفهومها الحق وإيهام الجماهير أن الديمقراطية شيء آخر غير الذي تعرف عنها؟
إن الجواب عن هذا السؤال من السهولة بمكان إذا تذكرنا أننا الآن في منتصف سنة 1962، وهي السنة التي كان قد قيل عنها إنها سنة الدستور والمؤسسات التمثيلية. فالوعد الذي قطعه المرحوم محمد الخامس على نفسه يوم زج به في تلك التجربة المشؤومة، تجربة الحكم الفردي، هذا الوعد ينص على أن بلادنا ستتمتع بمؤسسات تمثيلية ودستور هذا العام، عام 1962. والملك الحالي الحسن الثاني قد أكد هذا الوعد في خطب وتصريحات عديدة، حيث أعلن أنه لن تنتهي سنة 1962 حتى تكون البلاد متوفرة على دستور ومؤسسات تمثيلية. واليوم ونحن في منتصف السنة الموعودة 1962 نجد أنفسنا أبعد ما نكون عن الديمقراطية والدستور، وتجد الدولة نفسها أبعد ما تكون عن تحقيق هذا الوعد الذي قطعه على نفسه أمام الملأ الملك المرحوم وأكده أمام الملأ أيضا الملك الحسن مرارا. وكان ظاهرا بعد وفاة الملك محمد الخامس، خصوصا وقد توفي وهو عازم على الرجوع إلى الشعب وإلغاء التجربة التي زج فيها، بمجرد خروجه من المصحة، كان ظاهرا بعد وفاة محمد الخامس، أن تأكيد الوعد بإقامة المؤسسات التمثيلية هذا العام، إنما يدخل في نطاق الدعاية لإخلاص الحاكمين اليوم لسياسة محمد الخامس والوفاء بوعوده. ونحن نذكر أن حملة الدعاية هذه كانت واسعة يطلق فيها الكلام بغير حساب.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى