الرأي

الحب في زمن الحرب

مر عيد الحب (الفالنتاين) في فبراير 14 من هذا العام المرعب الذي نعيش فيه عام 2016م، فهل من حديث عن الحب في زمن الحرب؟ في البداية كلمة (حب) و(حرب) هي بفارق حرف واحد، ولكن من هذا الحرف تصعد أرواح الخلائق موتا بأشنع الميتات.
أتذكر من ألمانيا أن عندهم يوما مهما تجتمع فيه شخصيات كبيرة تبدأ في قراءة أفكار قالها أناس هامون في التاريخ عن الحرب، من هيروقليطس حتى كلاوسفيتس.
في قصة (الحب زمن الكوليرا) التي مثلتها هوليوود رأينا أن الحب إنما هو للحبيب الأول، فلم تزده السنوات إلا ضراما، ولم تطفئه الشيخوخة قط. في النهاية يتزوج العجوزان ويستقلان سفينة يرفعان عليها علم الإصابة بالكوليرا كي لا يعكر صفو الشيخ والعجوز المتحابين أحد.
في المراسلات التي تمت بين فرويد وأينشتاين في ظل الحرب الكونية أشار فرويد إلى تعاكس حقلين في الروح الإنسانية سماها (الليبيدو) و(التانتوس) أي اللذة والموت. ونفس الشيء أشار له باسكال في الخواطر عن ثنائيات الإنسان أنه القديس وبالوعة الضلال الموت والحياة.
في القرآن وأن إلى ربك المنتهى وأنه أضحك وأبكى وأنه أمات وأحيى وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى.
في حائل من السعودية رووا لي قصة جبلين كانا مهد محبين حاولت الروح القبلية التفريق بينهما فاجتمعا في وهدة الموت فلا فراق. هكذا قالوا أيضا عن تلك الأميرة السعودية التي أحبت فكلفها الحب هي وحبيبها الموت.
في القرآن مفردات الموت والحياة قريبة من بعض، فالله على كل شيء قدير وتبارك الذي بيده الملك الذي خلق الموت والحياة. هنا نشعر أن الموت لا يعني الفناء بل حالة وجودية مختلفة.
أعرف فتاة شركسية هامت حبا بشاب درزي، فيما يخالف الصراعات التاريخية بين المجموعتين، حتى تزوجا وأنجبا وبنيا عائلة سعيدة. أعجب ما في القصة أنني رأيت الفتاة وكأنها ميتة وبعثت إلى الحياة، لما سألت قالوا لي في نفس الوقت وافق الآباء على تزويج الأولاد.
شيخ المدرسة الظاهرية (ابن حزم) يروي قصصا عجيبة عن المتحابين في كتابه (طوق الحمامة). منها قصة ذلك الذي عشق الجارية ثم باعها فلم يصبر على فراقها؛ فلما أراد استردادها بمزيد من الثمن أبى الشاري فاحتكما إلى قاض كان يجلس على شرف؛ فقال لهما يا صديقي الحب له اختبار؛ فمن كان أشد حبا لها رمى نفسه من هذا الشاهق ففعل البائع؛ قال القاضي للشاري هلم فتابع؛ فتراجع، وأخذ ماله، ورجعت الجارية المعشوقة لسيدها الأول.
وحسب ابن حزم أنه ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان بينهما من الانجذاب ألوان. ويروي تجربته الشخصية وتربيته وتعليمه من النساء وماذا رأى في الحريم.
إن قصة (يوسف ابن يعقوب) وكلفة الحب بضع سنين في الحبس شيء عجيب، وأعجب ما في القصة هذا الميل الذي وقع بين الاثنين؛ فيقر القرآن أنه همّ بها وهمّت به لولا أن رأى برهان ربه. هنا وقف المفسرون طويلا أمام تناقضين؛ هربه منها لما خلعت وقدمت نفسها، ثم كيف همّ بها؟ والجواب أن هناك خواطر نفسية تحصل، ولكن الفعل يبقى متأخرا.
أنا شخصيا ما قرأت هذه السورة إلا وتحدّرت دموعي على خدي، تأثرا من مواقف شتى، ربما أعظمها وقفة النبي (يعقوب) مع كل مصيبة، حتى اكتملت من كل جانب وعمي؛ فبقي على الأمل، فلنبق إذن على العمل في انتصار شعوب الربيع العربي ودحرها للغزاة وسحقها للطغاة وخلاصها من الغلاة.
يروى عن ابن سينا كيف أشرف شاب على الموت فلم يعد يأكل ويشرب؛ فأدرك ابن سينا بحدسه السر في الشاب؛ فوضع يده على نبض الرسغ، وبدأ يروي له الأمكنة والمآكل والناس فأحس باضطراب وتسارع في النبض حين وصل إلى ذكر حارة وفتاة؛ فعرف السر فزوجه فشفي.
في مدينة الجديدة في المغرب اتصل بي (السي محمد) مستعجلا يروي قصة غرامه لي بشكل معكوس، كيف أن فتاته لم تعد تعطيه انتباها، وبدلته إلى شاب آخر. كان يروي قصته وهو في حالة زوبعة عاطفية ونكس روحي وبيده قارورة الدواء (برومازين) هل تفيد في التهدئة؟ قلت له إن دواءك عند الفتاة، فحاول كسب قلبها من جديد.
فأي سحر وسر تملكه المرأة الضعيفة، التي تتملك قلب الرجل القوي المتين؟ أذكر جيدا من فيلم سبارتكوس كيف تفعل فتاة ضعيفة بامتلاك قلب رجل قوي مصارع من أشد المقاتلين فأقول سبحانك يا رب.
يوم 14 فبراير جميل أن نقف عنده، ولو كانت السماء ترعد بالصواريخ والقنابل. أتذكر جيدا فقرة من قصة (المريض الإنجليزي) التي تم تمثيلها فيلما، وهو فيلم مؤثر جدا، عن رجل أحب امرأة ثم سقطت بهما الطائرة بفعل قصف مدفعي من البريطانيين وهو بريطاني ظنا منهم أنه ألماني.
حمل الحبيبة إلى كهف بارد في حر الصحراء وهو يواسيها بعد أن كسرت ساقها ويهدهدها ويقول لا تتكلمي كثيرا فالكلام يتعبك. وضعها في الكهف ودمعه لا يتوقف وقال سأذهب لأقرب نقطة أحضر فيها سيارة أحملك لنقطة إسعاف.
أعطاها المصباح تستأنس وترى ظلمات الكهف. ليمضي الرجل العاشق، ولكن الطريق طويل صحراوي، أخذ منه أكثر من يوم وهو يركض في كل اتجاه، حتى يجتمع بنقطة حدودية في منطقة الصراع الدائر بين رومل ومونتغمري، وحين يصل النقطة البريطانية يتشككون فيه ويظنوه جاسوسا بسبب اسمه الغريب. يقفز من قطار السجن الذي وضع فيه للمعتقل، ليحاول الوصول إلى مكان يشتري فيه طائرة نقل، أما المحبوبة فكان الظلام أطول من قوة المصباح. كانت تقول كلمات وهي الكسيحة في ظلمات الكهف لا تقوى على النهوض. يالله كم الكهف بارد، يالله كم الظلام كثيف. ما هذه الحياة التي جئنا لها لنعيش في حدود من بلاد يتحكم فيها رجال قساة. ولكن الحياة جميلة تلك التي دخلت فيها أرواحنا فتسربلت أجسادا قبل أن تغادرها.
يعود الرجل المحب بعد حين ليحمل جثة المحبوبة التي فارقت الحياة في الكهف البارد. لقد وعدها أن يدفنها في حديقة المنزل، كم الحب جميل، كم الفراق مؤلم. هؤلاء الأحباء الذين نعرفهم كم هو مؤلم أن تراهم قد تركوك وحيدا، مع موت كل واحد نعرفه يموت قسم منها. وفي الرحلة الجديدة لم تتركه المدفعية من جديد فيهوي محترقا. ليأخذه رجال الطوارق بعد أن يلفعوا وجهه المحروق بمراهم من عندهم، ويبقى يسبح بين الموت والحياة حتى تتلقفه يد ممرضة إيطالية. أخيرا لا يقوى على فراق الحبيبة أكثر فيسأل ضارعا الممرضة أن تعطيه جرعة عالية من المورفين ليفارق الحياة. نهاية أسيفة ولكنها تروي في عمومها ذلك الشعور النبيل في قلب كل واحد منا الحب الإلهي الصوفي. ويبقى أحدنا يسأل لماذا القتل والجنون والحرب لماذا لماذا؟؟؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى