شوف تشوف

الدق والسكات

 

 

 

قدرنا في هذا البلد أن نتعايش مع سياسيين إما ثرثارين وشعبويين وإما مصابين بـ”اللقوة العسرية” وعندما يفتحون أفواههم من أجل كسر صمتهم عن الكلام يتفوهون بأشياء غريبة تكشف عن جوانب غير متزنة في شخصياتهم.

مناسبة هذا الكلام هي ما غرد به رئيس الحكومة سعد الدين العثماني في حسابه بتويتر عندما قال إن واجب التحفظ يمنعه من الحديث عن منجزات حكومته، وعندما “هبطت” عليه كائنات الفضاء الأزرق بسبب هذه التغريدة عاد ونسخها بتغريدة أخرى كشف فيها أن ما قصده بواجب التحفظ هو إحجامه عن الحديث عن ملفات الفساد التي تم تقديمها للقضاء، وذلك حرصا على قرينة البراءة.

وهكذا فبعد بنكيران الذي كان يردد “التحكم منعني” لتبرير كوارثه ها هو خلفه العثماني يخترع شعارا جديدا قوامه “التحفظ منعني”.

السيد رئيس الحكومة لا يميز بين قرينة البراءة وبين الحق في الخبر، فتقديم مسؤولين للقضاء وتوجيه الاتهام لهم لا يعني أنهم متورطون بل إنهم يظلون أبرياء طالما أن القضاء لم يدنهم.

وفِي الدول الديمقراطية نرى أن الحكومات لا تعلن فقط عن أسماء المسؤولين الذين يتم تقديمهم للعدالة بل إن الإعلام التلفزيوني الرسمي يعرض صورهم وينجز روبورتاجات ونقاشات حول القضايا والملفات التي أثيرت فيها أسماء هؤلاء.

وقد كان الناس يطالبون رئيس الحكومة بأن يتخلى عن تحفظه ويعلن عن المنجزات التي يدعي أن حكومته حققتها، لكنهم عندما سمعوه يخرج عن تحفظه ويعدد هذه المنجزات التي كلها وعود وشعارات من قبيل سنشرع في محاربة الفساد، أصبحوا يقولون “يا ليت الرجل تحفظ”.

إذ ما معنى أن يقول رئيس الحكومة إن الفساد يفوت على المغرب بناء 150 مستشفى و300 مدرسة سنويا؟

عليه أن يصدق المغاربة القول ويتحمل مسؤوليته ويقول “تهاوننا وتسامحنا مع الفساد وعجزنا عن محاربته تكلف المغرب خسارة بناء 150 مستشفى و300 مدرسة سنويا”.

والحقيقة أن ما قاله العثماني أمام أُطر الحزب من كونهم يتحفظون عن ذكر المنجزات فيه استهانة بذكاء المغاربة واحتقار لوعيهم السياسي.

فالمنجزات لا يتم الإعلان عنها لكي يعلم بوجودها، المنجزات يشعر بها الناس في حياتهم اليومية، والحال أن ما يشعر به الناس طيلة هذه السنوات السبع العجاف التي قضاها حزب العدالة والتنمية في الحكم ليس سوى الأزمة التي تشتد يوما عن يوم.

ثم هل المنجزات أصبحت من أسرار الدولة حتى يحيطها رئيس الحكومة بواجب التحفظ ؟

تقديم الحصيلة أمام الشعب ليس ترفا أو صدقة جارية يتفضل بها المسؤولون على الشعب، بل إنها مبدأ دستوري وقانوني، وعدم إعطاء المنجزات فيه تعطيل لمبدأ دستوري هو ربط المسؤولية بالمحاسبة، إذ ماذا ستحاسب المعارضة والصحافة إذا لم يكن هناك تقديم للحصيلة؟

ولو كان رئيس الحكومة جادا فعلا في تطبيق مبدأ واجب التحفظ لكان أغلق حسابه عن التغريد في قضية كانت لا تزال في طور البحث مثل قضية مقتل ابن قاض في مقهى لاكريم بمراكش، عندما استبق سعادته بلاغ الإدارة العامة للأمن الوطني وأعلن عن اعتقال المتورطين في الجريمة.

والشيء نفسه حدث عندما خرقوا المساطر الدستورية في ما يتعلق باستقالة لحسن الداودي، وأعلنوا أنهم تداولوا في الحزب حول الأمر وتفهموا دوافع طلب الاستقالة، والحال أن الأمر لا يتعلق بمناضل داخل حزب وإنما بوزير داخل الحكومة التي تحتكم للمادة 47 من الدستور التي تنظم مسألة الإعفاء أو طلب إعفاء وزراء من الحكومة، ما يعني أن أمانة الحزب الحاكم خاضت في أمور ليست من صلاحياتها، نتجت عنها وضعية غريبة للوزير الداودي، فقد أصبح مثل “مرات المتعوس ما هيا مطلقة ما هيا عروس”.

وإذا كان العثماني يحب “التحفظ” كل هذا الحب فلماذا لا يتحفظ حزبه في البرلمان عن التدخل في القضاء في قضايا رائجة أمام المحاكم، والتدخل في مندوبية السجون لأجل شخصين معتقلين في حين أن ساكنة السجون تعد بسبعين ألفا؟

أين واجب التحفظ في حضور وزراء من حزبه ندوة صحفية للبرلماني حامي الدين في قضية اتهامه في ملف آيت الجيد؟

ليس للعثماني من جواب عن كل هذه الأسئلة سوى أن حكومته هي حكومة “الإنصات والإنجاز”، أي أنهم يشتغلون بمنطق “الدق والسكات”، سوى أن “الدق” ليس في جيوب من سرقوا الميزانيات وإنما في ظهر الشعب.

ويبدو أن العثماني يخلط بين كرسي رئاسة الحكومة وكنبة عيادته النفسية، فهو يعتبر الشعب مريضا نفسيا يجب الإنصات إليه وإعطاؤه أدوية مهدئة أو معالجته بالاستماع إلى مشاكله.

والحقيقة أنه إذا كان هناك من شخص عديم التحفظ فهو العثماني نفسه، فهو أصلا طرد من الخارجية بسبب عدم الالتزام بواجب التحفظ عندما سافر في زيارة رسمية للكويت فاستغلها وذهب إلى لقاء الإخوان المسلمين، ففقد منصبه الوزاري و”خرج معاه على بلاصة” السفير.

لقد كان على العثماني أن يتحفظ فعلا، لكن في إطلاق الوعود التي سطرها في البرنامج الحكومي عندما التزم بتحقيق المطالب الأربعة التي هي ترسيخ الديمقراطية والشفافية والملف الاجتماعي وحماية الاستثمار، و”كملها وجملها” عندما وعد بتشغيل مليون و200 ألف في أفق 2021.

لهذا كله فإن تقديم الحصيلة ليس اختيارا بل هو واجب طبقا للمادة 100 من الدستور التي تفرض عليه الحضور شهريا للبرلمان لعرض منجزات حكومته.

الدستور يفرض عليه عرض الحصيلة الحكومية، وفِي كل الدول التي تحترم نفسها وتلتزم بالأعراف الديمقراطية تفرض على رؤساء الحكومات عرض إنجازات مائة يوم الأولى وإنجازات السنة الأولى وإنجازات نصف الولاية وإنجازات نهاية الولاية، ليس حبا في رؤية “كمامرهم” ولكن حبا في معرفة أين وكيف تصرف أموال ضرائبهم.

ولعلكم طالعتم جميعكم خبر ذلك المغربي الذي انتحل صفة العثماني لحجز طاولة في مطعم بروسيا، وقد انطلت الحيلة على أصحاب المطعم فحجزوا له طاولة الضيوف والتقطوا صورا تذكارية معه وهو يضع لهم توقيعه في صحن على سبيل الذكرى.

عندما شاهدت ذلك الفيديو الذي يظهر فيه صاحبنا وهو “ينصب” باسم العثماني على أصحاب المطعم الروس قلت في نفسي إننا أخيرا اكتشفنا أن رئيس الحكومة نافع لشيء ما على الأقل، فقد استطاع أن يضمن لمواطن مغربي طاولة في مطعم.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى