الرأي

 الدكتور جايكل والمستر هايد

 خالص جلبي

 

قبل 200 عام في يناير من عام 1818م ظهر كتاب (فيكتور فرانكنشتاين) أو برومثيوس المعاصر، بقلم شابة صغيرة في العشرينات من العمر هي (ماري شيللي Mary Shelly). أحدث الكتاب ضجة مهولة في عالم الروايات، وما زال يحرض الخيال، بل العلم حتى أيامنا الحالية. والسؤال لماذا كان الكتاب مثيرا إلى هذا الحد؟ هذا يأخذنا لمعرفة محتويات الرواية؛ فقد تحدثت (ماري غودوين Mary Godwin) التي لم تكن متزوجة بعد؛ أن بركانا هائلا انفجر في أقصى الأرض في أندونيسيا عام 1816 م هو (بركان تامبورا Tambora Vulcan) قذف من الأتربة ما قاد إلى انعدام الصيف في أوربا. كانت الشابة مع لفيف آخرين يتحلقون حول الشاعر (اللورد بايرون Lord Byron)، يجمعهم الفكر الحر ويتبادلون آخر منجزات العلم وأبدع التصورات وأكثرها جرأة. كان الحديث يدور حول بنية العناصر، ومتى بدأت الحياة والأهم الكشوفات العلمية الجديدة.

كان ثمة ضجة مخيفة في الوسط العلمي عن وضع اليد على سر الحياة. ثمة طبيب إيطالي هو لويجي غالفاني (Luigi Galvani) فوجئ بظاهرة غريبة في أفخاذ الضفادع الميتة أنها تتقلص حين تعرضها للتيار الكهربي. قال غالفاني يومها: الحياة هي كهرباء.

ما زلت أتذكر من كلية الطب في قسم الفسيولوجيا التي ترجمت إلى علم الغريزة وهي ترجمة غير صحيحة، بل يجب أن يطلق عليها شيء آخر ولعلهم أحسنوا حينما أضافوا علم وظائف الأعضاء، وهكذا نرى مأساة الترجمة فمقابل كلمة لاتينية نحاول توضيحا بثلاث كلمات. المهم أن تجربة صعق سيقان الضفدع بالكهرباء، قمنا بها في المخبر العملي المتصل بعلم الفسيولوجيا. وربما كان الأفضل عدم ترجمتها وإبقائها كما هي الفسيولوجيا. إنها لعنة توقف اللغة وعدم تطورها، كما هو الحال في الانحراف الحضاري ومآلاته.

أكثر من ذلك قام ابن أخته جيوفاني ألديني (Giovanni Aldini) بالتقدم خطوة أبعد في إظهار ظاهرة الموت والحياة. بكل بساطة تقدم أمام جمهور يحملق بفزع وغرابة ليرى رجلا قد تم إعدامه. يجلسه الطبيب جيوفاني وهو مدلى الرأس ميت التعبيرات، فيصعقه بالكهرباء لتبدأ عضلات وجهه في الارتجاج لترسم صورا سريالية من التعبيرات المكشرة المزمجرة. يضحك جيوفاني ويقول: هنا سر الحياة. صعق الوسط العلمي بالظاهرة الغالفانية يومها، وأصبحت موضة في التفكير فالحياة أبسط بكثير مما نتصور.

تشبه قصة الدكتور (جايكل ـ هايد) من جهة قصة (فرانكنشتاين) بغرابتها، ولذا أصبحت هاتان القصتان من التراث الإنساني الأدبي، فأما الأول فتحكي ازدواجية الإنسان المحيرة من حيث يجمع أحدنا في جوفه الوحش والملاك، وهي جدلية ناقشها (باسكال)، الفيلسوف الفرنسي، تحت قانون النهايتين بدون أن يعثر لها على حل، وأما الثانية فتحكي قصة محاكاة الخلق الإلهي عندما جمع طبيب أعضاء من أجسام شتى من أموات حديثين ليطبق عليهم الكهرباء والكيمياء في لحم الأعضاء ببعضها، لينهض إنسان عادي أولا ثم لينتهي بكارثة. وهذا خلق الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه؟ وهذه القصص تروي طموحات الإنسان وحدودها، وقصة الاستنساخ الحالية مقبلة على شيء من هذا النوع، بعد أن قتلت (دولي) وظهرت عليها الشيخوخة قبل الأوان، فقتلها من استولدها. نشأ الدكتور جايكل طبيا من عائلة ثرية، وكان يحاضر عن تشريح الدماغ، فهداه تفكيره إلى أن بالإمكان عن طريق حقنة سحرية أن يغير طبيعة الإنسان فينتزع منه نوازع الشر فيصبح ملكا سويا. فالدماغ يتحكم في الجسم، والعقل في الدماغ، والدماغ تركيب كيماوي فإن ابتكرنا دواء يؤثر في الدماغ غيرنا السلوك، وهذا الكلام له حاليا أرضية علمية، فقد اكتشف أن الخوف متعلق بمادة كيماوية يفرزها الجسم؛ فإن حقن بها خاف، وإن خفت انتفى الخوف، ولكن الخوف من طبيعة الإنسان من أجل المحافظة على الحياة، ولنتصور أننا نعيش بدون خوف من الأفاعي أو السقوط من شاهق، هل يمكن أن نبقى على قيد الحياة؟ ولذا فإن التفكير الذي مشى به الدكتور (جايكل) بني خطأ على خطأ، وهو تفكير غير ممكن وغير عملي، لأنه يقضي على الطبيعة الأصلية في الإنسان. وحاول الدكتور جايكل من خلال مخبري سري أن يجرب عقاره السحري المزعوم على الحيوانات فقتل منها من قتل، ثم ظهر له أن العقار بدأ يأخذ مفعوله فينام الحيوان ويروض فيصبح أنيسا بعد أن كان وحشيا، فظن الدكتور جايكل أن تطبيق هذا العقار على البشر سوف ينتهي معهم بنفس النتيجة من ترويض نوازع الشر عندهم. وبعد فترة انتظار أن يتقدم أحد فيخضع نفسه للتجربة، سئم الدكتور جايكل الانتظار فبدأ في تطبيق العقار على نفسه. وما حدث أن انشقت شخصية الدكتور إلى شخصيتين، فهو شخص محترم معتبر في النهار اسمه (الدكتور جايكل)، وهو مجرم شقي قاتل مغتصب في الليل اسمه (السيد هايد). وهكذا أطلق الوحش الذي في داخلنا من عقاله. وعلماء النفس الإسلامي وقبلهم علماء اليونان وحاليا علماء مدرسة النفس التحليلي، اكتشفوا أن هناك في داخل كل واحد منا طبقة عميقة مظلمة من بقايا وحش الغابة سموها (اللاوعي)، وما جعلنا بشرا أسوياء هو تركيب الدماغ الحديث، ويسمونه الأطباء الدماغ الجديد، فهذا الذي يملك السيطرة، في حين أن قاع الدماغ يحوي تراكيب لا نختلف فيها كثيرا عن التماسيح والأرانب، وهي قصة تطورية، ولولا هذه المراكز ما استطعنا العيش لأن فيها مراكز الحياة الحيوية، وفي وسط الدماغ يوجد مركز العواطف. وحاليا اكتشف البعض (دورة عاطفية) في الدماغ بين الأميجدالا ومركزها الفص الدماغي الصدغي، وبين الدماغ العلوي. وهكذا فنحن في داخلنا نتركب من طبق على طبق، في الأعماق تمساح، وبينهما قطة وكلب وسبع، وفي النهاية بشر رائع نفخ الله فيه من روحه فسواه فعدله. وقصة (جايكل ـ هايد) تظهر جدلية الثنائية عند الإنسان وأن في صدر كل واحد منا وحش مختبئ، قد أفلح من روّضه وقد خاب من أطلقه. والكائنات في الكون أربعة بأربعة أقطاب، منها ما كان أحادي القطب ومنها ما كان ثنائيا، فالشيطان سلبي الاتجاه، والملاك إيجابي العمل لا يسأمون عن عبادة الله ولا هم يستحسرون، بينما كان الإنسان ويلحقه الجن ثنائي القطب. ونحن لا نعرف عن الجن شيئا، وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا، والله يرانا هو وقبيله من حيث لا ترونهم. وأعظم الجدل في الإنسان هذه الثنائية، وكان الإنسان أكثر شيء جدلا، وسرها هو التطور، فالكائن أحادي الاتجاه لا يتغير ولا يتطور، والملائكة عند ربهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، في حين أن آدم عصى ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه فهدى. وقصة الثنائي (جايكل ـ هايد) تم تمثيلها في فيلم رأيته، وكما يقال في بعض الكتب (كتاب ليتني لم أقرأه). وأنا أقول عن الفيلم: ليتني لم أشاهده. والروح تتعكر برؤية أشياء سيئة، وليس من شيء أفسد

للنفس من رؤية الأشياء مقلوبة مقززة من الدم والاغتصاب والعدوان.

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى