شوف تشوف

الريح والعاصفة

سنة 2014، وعلى قناة «إي تيلي» الفرنسية، قال نتانياهو للصحافي الذي استضافه إن الإرهاب سيأتي عندهم إلى غاية فرنسا.
ويبدو أن نتانياهو كان يعرف ما يقوله، والدليل أنه بعد تصريحه ذاك توالت الضربات الإرهابية ضد فرنسا بشكل عنيف ودموي، وآخرها تفجيرات ليلة الجمعة التي جعلت فرنسا تعيش أجواء الحرب التي لم تعشها منذ الحرب العالمية.
الرئيس الفرنسي أيضا كان يتوقع الأسوأ، ولذلك قال في خطاب للشعب الفرنسي إنه يعرف من قام بالتفجيرات ويعرف من أين أتوا، حتى قبل إنهاء قوات التدخل الفرنسية عملية تحرير الرهائن، وحتى قبل العثور على جوازي السفر السوري والمصري في مكان الاعتداء.
كل الأجهزة الأمنية الفرنسية كانت تتوقع ضربات مفاجئة، لسبب واضح وهو أن «داعش» تعتبر ضرب فرنسا أولوية قصوى لكون فرنسا في نظرها هي الحاضنة الطبيعية للصهيونية، لكن هذه الأجهزة لم تكن تتخيل أن الضربة ستكون موجعة بهذا الشكل، أي بواسطة انتحاريين مفخخين بالمتفجرات، فأن تحارب إرهابيا يحمل رشاشا يقتل به ويبحث عن الفرار بجلده ليس كأن تحارب إرهابيا يحمل رشاشا يقتل به ويبحث لكي يفجر نفسه بحزامه الناسف لكي يموت شهيدا.
مما يعني أن فرنسا، وغيرها من العواصم المستهدفة، لا تواجه جيشا أو عتادا بل تواجه فكرا مفخخا مصنوعا في مختبرات غسيل الأدمغة. وحملة هذا الفكر يمكن أن يكونوا في كل مكان، نائمين بانتظار النفير الذي يوقظهم ويوجههم صوب أهدافهم، أما السلاح فموجود في كل مكان ومتاح لمن يدفع مقابل الحصول عليه، خصوصا في أوساط تجار المخدرات.
وسيكون من السذاجة الاعتقاد أن ما وقع في باريس أو قبله بيوم في لبنان، أو ما يحدث من قتل وتدمير يوميا في مصر وليبيا وتونس وسوريا والعراق، أحداث معزولة سيتم القضاء عليها بمجرد تحديد المتورطين فيها.
إن ما يحدث لديه اسم واحد هو الحرب، وكم كان حكيما جون فيتجيرالد كينيدي عندما قال: «يجب على البشرية أن تضع حدا للحرب وإلا فإن الحرب ستضع حدا للبشرية».
وبما أن البشرية قررت أن تستمر في الاحتراب فإنها تكون قد حكمت على نفسها بالانقراض، وها نحن ذاهبون بخطى حثيثة نحو هذه النهاية المفزعة والمفجعة في آن، برضانا أو مكرهين، بسبب نفاق الدول العظمى التي تتغنى بالسلام وفي الوقت ذاته تصنع وتبيع الأسلحة الأكثر فتكا وتدميرا.
الحقيقة التي يتعامى عنها الجميع هي أن العالم اليوم دخل في حرب عالمية ثالثة تقوم على التدبير المفوض للاحتراب والاقتتال. إننا أمام حرب عالمية بالوكالة، أطرافها الحقيقية إمبراطوريات عظمى تتصارع حول منابع الماء والطاقة والطرق البحرية، بينما ضحاياها هي الدول العربية التي من سوء حظها أن الجغرافيا وضعتها في طريق هذه الإمبراطوريات المتصارعة.
إن ما يحدث هو صراع الإمبراطوريات الفارسية والعثمانية المتحالفة مع الإمبراطورية الأمريكية من جهة، ومن جهة أخرى الإمبراطورية القيصرية والإمبراطورية الأوربية، اللتين تتصارعان على النفوذ، أما المدنيون فيؤدون الثمن، سواء كانوا في حلب أو بيروت أو باريس أو سوسة.
وللبحث عن أجوبة للأسباب الكامنة وراء «الفوضى الخلاقة» التي اجتاحت العالم، تجب العودة إلى الخلف بعض الشيء، وبالضبط إلى اليوم الذي اتخذ فيه «العالم الحر» قرار اجتياح العراق وتمزيق أوصاله وانتهاء بتقديم رئيس العراق صدام حسين السني لألد خصومه الشيعة لكي يشنقوه فجر عيد الأضحى أمام أنظار مليار ونصف مليار مسلم.
منذ ذلك اليوم صرنا نرى كيف يلقى فيه القبض على رؤساء دول في مجاري المياه مثل الجرذان ويعدمون في فجر العيد أو فوق سيارة «بيكوب» كما حدث للقذافي.
إن قرار تفتيت العراق وإهانة رئيسه وإعدامه بسبب إخفائه لأسلحة، اتضح أخيرا أنها كانت مجرد كذبة اعتذر عنها مجرم الحرب طوني بلير وآخذ بسببها بوش الأب مجرمي الحرب دونالد رامسفيلد وديك تشيني بكونهما ضللا ابنه بوش الابن لغزو العراق، كان بمثابة فتح علبة الباندورا التي خرج منها تنظيم «القاعدة» والزرقاوي و«داعش البغدادي» في العراق وفي سوريا.
وتماما كما زرعوا إسرائيل في خصر فلسطين لكي تكون مخلب قط يعرقل أي اتحاد بين العرب، ها هم اليوم يزرعون «داعش» في العراق والشام، والهدف هو ضمان أمن ومستقبل إسرائيل حتى لا تبقى محاطة بدول قوية كالعراق وسوريا ومصر.
فإسرائيل وحماتها لم ينسوا حرب أكتوبر التي وحدت العرب ضد المحتل الصهيوني، فتقررت معاقبة كل هذه الدول كل حسب دوره، تماما مثلما لم تنس أمريكا وحلفاؤها ما صنعته ألمانيا الهتلرية باليهود فتم تدميرها وتقسيمها إلى ألمانيتين وإخضاعها لشروط عسكرية قاسية، وما ضربة «فولسفاغن» الأخيرة سوى امتداد لمسلسل العقوبات الدولية التي ما زالت تطول ألمانيا على يد أمريكا.
وما وقع في باريس من إعدام إرهابي بدم بارد لمائة وأربعين مواطنا مسالما، كانت لأصحابه أهداف ورسائل متعددة إلى أطراف كثيرة. منها أن باريس مدعوة، حسب تنظيم «داعش» الذي أعلن مسؤوليته عن المجزرة، لمراجعة سياستها الخارجية، خصوصا إزاء الشرق الأوسط، وبالأخص ما يقع في سوريا ولبنان.
والحال أن فرنسا مدعوة لمراجعة علاقاتها الخارجية مع الدول التي تصدر الفكر الداعشي والوهابي وتتبنى الليبرالية الاقتصادية المغرية تجاه الغرب.
ومن يرى كيف تشتري دولة مثل قطر فرنسا قطعة قطعة كما لو كانت تذكارات أثرية، فقط لأن قطر تدفع دون حساب، يخاف على مستقبل هذا البلد.
«داعش» تبحث عبر استهداف مواطني الدول التي تتهمها بقصف المسلمين، لكي ترفع من شعبيتها بين أوساط أبناء الجاليات المسلمة داخل دول أوربا، خصوصا داخل السجون حيث يتم تجنيد الانتحاريين المستقبليين.
فهي تقدم نفسها بمثابة الدولة التي تنتصر للإسلام الذي يعيش الحصار داخل هذه الدول ويعيش المسلمون فيها مضايقات بسبب لباسهم وأكلهم الحلال.
ولا يجب أن نكذب على أنفسنا، فهناك في مواقع التواصل الاجتماعي موجة تضامن كبيرة مع ضحايا تفجيرات باريس، لكن هناك موجة كراهية كبيرة أيضا.
وإذا كان هناك من يدين ما حدث فهناك من يتعاطف أيضا مع الإرهابيين و«داعش» ويتفهم دوافعهم ويستنكر على المسلمين تعاطفهم مع النصارى.
هذا واقع لا يجب أن ننكره، فالفكر الداعشي يتغلغل ببطء مخيف داخل أدمغة الشباب الضائع فكريا والعاطل مهنيا والمفكك أسريا واجتماعيا.
ولعل المستفيد الأكبر مما حدث في باريس هو إسرائيل، إذ يمكن الآن لنتانياهو أن يمد رجليه ويقول للفرنسيين الذين عاتبوه على قصفه لغزة، إنه سبق أن حذرهم من اقتراب نيران الإرهاب من حطبهم، وإنه يقصف إرهابيي غزة لكي يحمي إسرائيل من أمثال هؤلاء. والخلاصة التي سيجتهد الإعلام الصهيوني في إظهارها هي أن فرنسا لم تعد بلدا آمنا بالنسبة لليهود الفرنسيين، والحل المتبقي أمامهم لإنقاذ أنفسهم وأبنائهم هو الفرار نحو إسرائيل، أرض الميعاد.
ومخطط ترويع اليهود في فرنسا لكي يرحلوا نحو إسرائيل بدأ منذ عشر سنوات تقريبا، وهو نفس المخطط الذي يشمل يهود المغرب أيضا، وقد شاهدنا ذلك عندما انطلقت آلة تخويف اليهود المغاربة بسبب مسرحية عرضت خلال مسيرة التضامن مع فلسطين، فيها مشهد فلسطيني يوجه بندقيته نحو رأس مستوطن يهودي، فسمعنا من يتساءل حول تهديد أمن اليهود المغاربة.
من جهة أخرى، هناك نقط تشابه كبيرة بين ما حدث في باريس يوم الثالث عشر من هذا الشهر وما حدث في الدار البيضاء ذات 16 ماي.
فالهجوم في كلا الاعتداءين استهدف مدنيين في أماكن عمومية، ومن دون شك فردة فعل الدولة الفرنسية ستجد في قانون مكافحة الإرهاب الملاذ القانوني لتشديد القبضة الأمنية، ولا نعتقد أن الرأي العام الفرنسي الذي جرحت كرامته سيعترض على تشديد الدولة لقبضتها الأمنية، بل إنه سيطالب بذلك بقوة.
ومن يستمع لخطاب الرئيس هولاند وهو تحت وقع الصدمة، سيلاحظ أنه استعمل نفس المفردات التي استعملها جورج بوش عقب أحداث الحادي عشر من شتنبر، وما تلا ذلك الخطاب الكارثي يعرفه الجميع، فقد تم غزو أفغانستان وبعدها تم غزو العراق وغرقت المنطقة كلها في بركة آسنة من الدم والأشلاء.
لقد تحدث الرئيس الفرنسي عن الإجراءات الأمنية المشددة التي ستشرع الدولة في تطبيقها، وتحدث عن الحرية كأحد أسس المبادئ التي قامت عليها الجمهورية الفرنسية، لكنه نسي أن الحل لما يحدث في فرنسا هو تغييب الدولة الفرنسية من اهتمامها للمبدئين الآخرين، أي «الأخوة» و«المساواة»، علما أن الحاجة إليهما اليوم أكثر من أي وقت مضى.
عندما حدث اعتداء النرويج الإرهابي جاء الرئيس ولم يتحدث عن أي إجراء أمني، بل وعد بالمزيد من الديمقراطية والحرية، والنتيجة نراها جميعا.
لذلك فقرار طرد الأئمة وحملات تفتيش البيوت والمطالبة بوضع جميع المشتبه فيهم تحت الحراسة النظرية، ليست سوى بداية لمسلسل طويل من الإجراءات الأمنية المشددة شبيهة بتلك التي عاشتها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي نتج عنها سجن اسمه «غوانتانامو» وسماح الرئيس الأمريكي بالتعذيب بتقنية الإغراق، وما إلى ذلك من الفضائح التي كشف عنها الكونغريس الأمريكي وانتهت باستقالة أطر عليا في وكالة «CIA».
إن ما يحدث في العالم من فوضى سببه رغبة قوى دولية في الهيمنة على الدول الضعيفة، خصوصا دول الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، من أجل إخضاعها وتقسيمها لتسهيل نهب ثرواتها من جهة، ومن جهة أخرى إفساح المجال لمشروع إسرائيل الكبرى الذي ليس تهجير يهود العالم نحوها ترهيبا وترغيبا سوى محطته الأولى.
وفي الوقت الذي سيفهم هؤلاء الإمبرياليون أن الدول لا تفتت هكذا وأن رؤساءها، رغم طغيانهم، لا يعاملون مثل الحشرات من طرف الأجنبي، سيكونون قد وضعوا أرجلهم على الطريق الصحيح، أي طريق السلم العالمي الذي ينشده الإسلام، ليس إسلام الزرقاوي والبغدادي وقطاع الرؤوس، وإنما الإسلام الذي جاء رحمة للعالمين، والذي علمنا أن من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا.
أما إذا استمر هؤلاء الإمبرياليون في التدخل في الشؤون الداخلية للدول ذات السيادة، ويقررون في مصير أي زعيم سيعيش وأي زعيم سيموت، فإنهم سيستمرون في زرع الريح، وبعد ذلك يستغربون لماذا تهب في وجوههم الزوابع، وكأنهم لا يعرفون أن من يزرع الريح لا يحصد سوى العاصفة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى