الرأي

العراق ولبنان والنموذج السوداني

جلبير الأشقر
أفلح رجال ونساء الثورة السودانية في تشكيل تنظيم محوري داخل مجتمع بلادهم، ارتكز إلى جمعيات نقابية مستقلة من المهنيين والمهنيات تكونت في المعارضة المحظورة لنظام عمر البشير.
كان المبادرون أساتذة جامعة الخرطوم الذين أنشأ مئتان منهم نقابة معارضة في عام 2012. وقد حذت حذوهم جماعات أخرى من المهنيين في قطاعات الإعلام والصحة والقانون والتعليم المدرسي، أسست مع الأساتذة الجامعيين في عام 2016 «تجمع المهنيين السودانيين». فلعب التجمع دورا رياديا في تأسيس تحالف القوى الاجتماعية والسياسية المعارضة المعروف باسم «قوى إعلان الحرية والتغيير»، نسبةً إلى الإعلان الذي صدر عن اثنتين وعشرين هيئة، قادت سوية الانتفاضة السودانية على نظام البشير، واستمرت في القيام بهذا الدور بعد إزاحة الديكتاتور من قبل قادة الأجهزة العسكرية ذاتها التي شكلت العمود الفقري لنظامه.
وقد ظل «تجمع المهنيين السودانيين» إلى يومنا هذا يقوم بالدور الأبرز في قيادة الثورة السودانية. ويجوز القول إنه لولا تأطير التجمع للحراك الشعبي وقيادته له، لما حقّقت الثورة السودانية ما أنجزته حتى يومنا هذا ولما واظبت الجماهير السودانية على النضال، من أجل تحقيق التغيير الجذري والشامل الذي تصبو إليه.
وقد استلهم الحراكان العراقي واللبناني المثال السوداني، مما دفع إلى تشكيل جمعيات مهنية ونقابية تطمح إلى تولي دور الأطر القيادية للنضال الجماهيري.
فمنذ معاودة الحراك العراقي في 25 أكتوبر الماضي، وفضلا عن انضمام الجامعات إليه بأساتذتها وطلابها، باتت تحتل الصدارة فيه نقابات الأساتذة والمعلمين والمهندسين والأطباء والمحامين، وهي القطاعات المهنية عينها التي نشأت في أوساطها الجمعيات التي تولت قيادة الثورة السودانية. وقد دعت النقابات المهنية العراقية إلى الإضراب العام في البلاد سعيا وراء نقل الحراك الشعبي إلى مستوى أرقى من القوة والفاعلية. وكذلك في لبنان وفي الوقت نفسه، أخذت شتى القطاعات المهنية تفرز هيئات نقابية من صفوفها، بينها وفي دور بارز أساتذة الجامعة والمهندسون. وفي 28 من الشهر الماضي، تم الإعلان عن تشكيل «تجمع مهنيات ومهنيين» الذي يضم تجمعات مستقلة في قطاعات مهنية شتى، منها مهن الصحة والمحامين والصحافيين، علاوة على الأساتذة الجامعيين والمهندسين الذين سبق ذكرهم.
أما التحدي الذي يواجهه الحراكان العراقي واللبناني في المجال التنظيمي، فيقوم أولا على تمكن الجماعات المهنية في البلدين من تثبيت عملها المشترك في إطار تنسيقي واحد على شاكلة «تجمع المهنيين السودانيين». وقد خطت الجماعات المهنية اللبنانية خطوة أولى في هذا الاتجاه، بقي أن نرى إذا تتمكن من تثبيتها وتطويرها لترتفع بسرعة مضاعفة إلى مستوى النضج التنظيمي والسياسي الذي بلغه المهنيون السودانيون، بعد سنتين من تشكيل تجمعهم. ويقوم التحدي ثانيا على توسيع إطار التجمع ليشتمل على نقابات عمالية مستقلة على غرار ما حصل في السودان، وهو الأمر الأكثر حيوية في تحويل الحراك إلى قوة اجتماعية واقتصادية منظمة عظيمة الشأن.
هذا بالنسبة إلى التحدي التنظيمي. أما التحدي السياسي فإن خطورته تفوق خطورة ذلك الذي واجهه الحراك السوداني، إذ إن العراق ولبنان يشتركان بارتكاز النظام السياسي فيهما إلى الطائفية، وهي سلاح خطير بيد الجماعات الحاكمة تستخدمه لتقسيم صفوف الشعب وفرض هيمنتها عليه. ومن المؤكد أن القوى المستندة إلى الطائفية أساسا لوجودها ونشاطها سوف تبذل قصارى جهدها لإجهاض الحراكين العراقي واللبناني، اللذين يشكلان أعظم تحد واجهته تلك القوى في تاريخها. وينضاف إلى ذلك أن الخريطة السياسية في البلدين تسودها أحزاب وجماعات طائفية لا يمكن تشكيل تحالف واسع معها على غرار «قوى إعلان الحرية والتغيير» في السودان، الأمر الذي يحتم أن تبقى قيادة الحراكين مستندة بصورة أساسية على النقابات والجماعات المهنية، بلا أحزاب سياسية، بغية المحافظة على وحدتها واستقلاليتها وزخمها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى