شوف تشوف

شوف تشوف

العقل والنقل

أول سؤال يسأله تلميذ لزميله لحظة خروجهما من قاعة الامتحانات هو «واش طلقو معاكم اللعب؟»، وأكبر مطلب يرفعه التلاميذ في وجه الأساتذة المراقبين هو «طلقو لينا اللعب»، لذلك لم يعد الهاجس هو مدى مطابقة الأجوبة مع المطلوب في الأسئلة، ولم يعد النقاش بين التلاميذ والأساتذة ينصب على مدى صواب المنهجية أو صحة المعلومات، بل فقط حول الغش، فالتلاميذ يعتبرونه «حقا» يبرر كل الوسائل، ولم يعد تخوف التلاميذ قبل ولوج قاعة الامتحان هو مدى صعوبة الأسئلة المطروحة أو سهولتها، بل فقط حول تشدد المراقبين أو تساهلهم، لذلك يفتخر البعض بكون بعض المراقبين «طلقو ليهم اللعب»، ويهاجمون البعض الآخر.
داخل هذا المناخ الذي لا علاقة له بالتربية لا من قريب ولا من بعيد، تصر الوزارة في بلاغاتها الرسمية على اعتبار ظروف اجتياز امتحانات الباكالوريا بأنها «عادية»، والحقيقة أنها غير عادية إطلاقا، فالوزارة مصرة على أن تلعب دور الشرطي والتلاميذ مصرون على لعب دور «المحتال»، وبين الحرصين هناك شيء غير طبيعي وفاسد يجري في قطاع التعليم.
فمن يشاهد فيديو التلاميذ الذين خربوا ثانوية في فاس لكون «الحراسة كانت متشددة»، فضلا عن عشرات الحالات المضبوطة ومئات الحالات التي تم التساهل معها لأسباب «إنسانية»، أضف إلى كل هذا تسرب كل الامتحانات على صفحات الفايسبوك، وأحيانا بعد مرور دقائق قليلة من توزيع الأوراق، كل هذا يؤكد بالملموس أن الاستمرار في هذه المقاربة الأمنية في تدبير الامتحانات هو خطأ جسيم، ليس فقط بسبب التكلفة المالية الخيالية التي تتطلبها العمليات الأمنية المرافقة لهذه الامتحانات، ولكن لأنها تفرغ الامتحانات من قيمتها التربوية الأصلية وفي هذا تتحمل الوزارة كامل المسؤولية.
هكذا لم تحل التهديدات الرسمية بمعاقبة الغشاشين ومن يساعدهم، وكذا الحملات التحسيسية دون استمرار الغش وما يرافقه من تعنيف للأساتذة المراقبين وتهديدهم والتحرش بهم في الشارع العام فقط لأنهم قاموا بواجبهم في ضمان تكافؤ الفرص. والحقيقة أن هذا الوضع يكشف بوضوح عمق الخلل الذي يعتري تعليمنا العمومي، والذي تتحمل مسؤوليته الوزارة أولا وأخيرا، وأي تفسير لاستفحال هذه الظاهرة غير هذا يبقى مجرد هروب إلى الأمام.
فمن الناحية المالية، فالدولة تصرف على التعليم حوالي 45.5 مليون درهم سنويا، وإذا تركنا الفرق بين ميزانيتي الاستثمار والتجهيز جانبا، وقسمنا هذا الرقم على عدد التلاميذ والبالغ حوالي 6 ملايين، فإننا نحصل على رقم 67432 درهما تصرفها الدولة سنويا على كل تلميذ، وإذا علمنا أن كل تلميذ يقضي 12 سنة في التعليم، على الأقل، ليحصل على شهادة الباكالوريا، فإن الميزانية التي يكلفها كل تلميذ طوال هذه المدة هي 917187 درهما، أي 100 مليون سنتيم تقريبا، يضاف إلى هذا الرقم الضخم لمصاريف أخرى مصدرها الجماعات المحلية والعمالات والولايات يتم تقديمها لتسهيل بعض العمليات المرتبطة بالامتحانات، تضاف إلى هذا أيضا تكاليف أخرى يفرضها تأمين الامتحانات والمؤسسات التعليمية، بدءا من الإجراءات الأمنية لنقل هذه المواضيع وتأمينها وصولا إلى تأمين المؤسسات التعليمية طيلة مدة الامتحانات.
إذن، كل هذه التكاليف السنوية الخيالية، ومع ذلك نجد أنفسنا أمام تلاميذ لا يهتمون إطلاقا بكل ما درسوه وتعلموه طيلة 12 سنة في مختلف المواد الدراسية، بل ويلجؤون إلى الغش للإجابة عن أسئلة درسوها وكأنهم لم يدرسوا شيئا ولم يتعلموا شيئا قط، أي أننا أمام تلامذة قضوا السنة الدراسية كاملة في فصول دراسية يدرسون لكنهم في الحقيقة لم يدرسوا شيئا لأنهم في الأخير يستجدون النقط في المراقبة المستمرة، ومنهم من يلجأ إلى تهديد الأساتذة من أجل الحصول على النقطة، وفي الامتحانات الموحدة يلجؤون إلى الغش بأي طريقة، والسؤال المنطقي هو أليس من حسن التدبير أن يتم توفير هذه الأموال الضخمة، والتي يمكننا أن نبني بها مئات المعامل سنويا بدل أن تصرف على تلاميذ لتعليمهم، وفي الأخير سيتصرفون تصرف من لم يدرس قط ؟ ثم السؤال الأهم: من المسؤول عن هذا العبث ؟
هذا السؤال يفرض علينا الحديث بوضوح عن دور الوزارة، التي نسيت أنها وزارة للتربية الوطنية وليس وزارة للداخلية مكلفة بالامتحانات، ولتكن لدينا الشجاعة لنتكلم بعيدا عن لغة الإنشاء التي تعوم النقاش، ولنضع الأصبع على مصدر المشكل دون لف أو دوران، إن المصدر الرئيسي لاستفحال هذه الظاهرة، والتي لا يمكن للوزارة أن تقضي عليها مهما فعلت، هو الطريقة المعتمدة في وضع الامتحانات، فعندما تطلب من تلميذ أن يتمم مقطع من سورة قرآنية في مادة التربية الإسلامية، ثم تطلب منه أن «يذكر» ثم يجيب عن أسئلة من قبيل «ماهي ومن ومتى وأين»، بدل بين أو برهن، أو أن يجيب عن سؤال «كيف ولماذا»، وفي الوقت نفسه نطلب منه معلومات حصرية في مادة الجغرافيا عن اقتصاد الصين والاتحاد الأوروبي، وفي التاريخ نطلب منه معلومات محددة عن الحربين العالميتين الأولى والثانية، ثم معلومات عن الأزمة الاقتصادية لسنة 1929. هذه مجرد عينة فقط من الأسئلة، فإننا بالعربية تاعرابت نقول للتلاميذ «احفظوا» ونقول لمن لم يحفظ منهم وهم الأغلبية انقلوا، فإذا كنا نفلح في إخافة أقلية من هؤلاء التلاميذ فيلجؤون مضطرين للحفظ، فإن الأغلبية سينصب «إبداعها» على الكيفية التي ستتمكن بها من تذكر عشرات المعلومات بطرق ملتوية، والسؤال «واش باقي شي تلميذ فالعالم اليوم كيحفظ» ؟
ألا توجد طريقة أخرى نضع بها الامتحانات تسمح للتلميذ بالاستعانة بالكتب المدرسية ؟ أين المشكلة من الناحية التربوية في أن نضع امتحانات ونزود التلاميذ بوثائق تضم معلومات في الوقت نفسه ما دام المطلوب منهم هو التحليل والمقارنة والاستنتاج والبرهنة والنقد ؟
إن الواقع يؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن الوزارة تتعامل مع تلامذة 2017 بذهنية الخمسينات، أي عندما كانت المعلومات ومصادرها مفقودة ونادرة، ففي زمن تؤكد آخر الإحصاءات الرسمية أن 90 في المائة من التلاميذ يملكون هاتفا ذكيا، و70 في المائة منهم يملكون حسابا في الفايسبوك مازلنا نطلب منهم أن يتذكروا ويستظهروا الأبيات الشعرية والإحصاءات الجغرافية والأحداث التاريخية وأقوال الفلاسفة والفقهاء التي عفا عنها الزمن.
والمصيبة الكبرى هنا هي أن المسؤولين في الوزارة يعرفون جيدا هذا الأمر، إنهم يعرفون أن زمن الاستظهار ولى إلى غير رجعة، وأن التعليم اليوم هو تنمية للقدرات والمهارات على النقد والحجاج والبرهنة والاستنتاج والتواصل والتعبير والإقناع، أي تعليم ينقل التلاميذ من مستوى يسميه أهل الاختصاص بـ le savoir إلى le savoir-être وle savoir-faire، إنهم يعرفون هذا لأنهم يشاهدونه في الدول المتقدمة التي يزورونها بالمال العام كل سنة، لكنهم عاجزون عن تطبيقها هنا في المغرب.
فعندما نتساءل عن مدى توفر إرادة إصلاح التعليم، فإن سؤالنا سيبقى فضفاضا إن لم ينصب على هذه النقطة تحديدا، أي تغيير البرامج والمناهج، ومنها طرق تقويم التعلم عند التلاميذ بحيث لا يهمنا أن يتذكر عدد العمال في الصين أو البرازيل، وأن يتذكر اسم الأمير الذي تسبب قتله في اندلاع الحرب العالمية الأولى، وأن يتذكر عشرات التواريخ، لأنها معلومات يمكننا ببساطة أن نمنحها للتلميذ في وضعية امتحان ونقطع عنه طريق الغش، فالهدف من الامتحانات في الدول المتقدمة لم يعد هو قياس قوة الذاكرة بل قوة الأسلوب والتحكم في اللغات والقدرة على التحليل والمقارنة والاستنتاج وإعطاء الأمثلة وتوظيف المعلومات، فهذا هو التعليم المعاصر الذي حققت به الدول المتقدمة طفرات هائلة.
ويكفي لأي منا أن يطلع على المواضيع التي تم وضعها في فرنسا وبلجيكا وهما دولتان فرانكوفونيتان نستلهم منهما العديد من قراراتنا، لنجد أن الامتحانات عندهم عبارة عما يسميه المختصون بـ«وضعيات مشكلات situations-problèmes»، ويكون على التلاميذ أن يكتبوا مواضيع تحليلية تظهر مدى تمكنهم من مهارات التحليل، أي مهارات منهجية.
إن الفرق هنا واضح جدا، بين امتحانات تجبر التلاميذ على أن يطرقوا كل الوسائل للاستدعاء معلومات محددة وبين امتحانات تعطي للتلاميذ فرصا بأن يظهروا قدراتهم اللغوية والمنهجية والتواصلية والتخيلية التي ظلوا طوال 12 سنة ينمونها ويصقلونها، والكارثة هنا هي أن المواد التي يفترض أن تُبنى فيها الامتحانات على فهم النصوص والتعليق النقدي والتحليلي عليها، وكتابة ذلك بلغة سليمة تركيبا ومعنى، وخاصة اللغتين العربية والفرنسية والإنجليزية، نجدها هي أيضا مبنية بطريق الاستظهار، ولمن شك في هذا يمكنه العودة لامتحانات هذه السنة وسيفاجأ بكون 14 نقطة من 20 في مواد الاجتماعيات والتربية الإسلامية واللغة العربية في امتحان الباكالوريا للسنة الأولى باكالوريا هي نقطة منحت عن أسئلة فيها الاستظهار، فإذا علمنا مثلا بأن تلاميذ هذا المستوى، وتحديدا في شعبة العلوم التجريبية، مضطرون لحفظ 17 درسا في الاجتماعيات، و26 درسا في العربية و13 درسا في التربية الإسلامية، و27 درسا في الفرنسية فإن مجموع الدروس التي ينبغي حفظها هو 83 درسا تتضمن ما يناهز 4000 معلومة، مما يعني أن أفضل التلاميذ هم أكثرهم قدرة على الحفظ بينما الأضعف هو الذي لا يحفظ ولا يتذكر، والسؤال الذي يطرح من الناحية التربوية والإنسانية معا، ما علاقة هذا بتكافؤ الفرص؟
ثم متى كان النسيان وعدم الحفظ خطيئة ؟ وهل حفظ المعلومات وشحنها في الذاكرة يعني بالضرورة أن الحُفاظ قادرون على كتابة مواضيع تحليلية منظمة منهجيا ؟
فالطريقة التي يتم بها وضع الامتحانات، فضلا عن الطريقة التي يتم بها التدريس هما السبب وراء انتشار الغش، وهذا هو جوهر دعوة الملك محمد السادس قبل خمس سنوات من الآن، وتحديدا في خطاب 30 يوليوز 2012 إلى ضرورة تغيير نسق التكوين، ودعوته بالمناسبة ذاتها سنة 2015 إلى تفكيك عقدة شهادة الباكالوريا، لكن كلا الدعوتين لم تجدا حتى الآن مسؤولين قادرين على فهم مقتضياتهما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى