شوف تشوف

الفيل والحمار الأمريكيان والبغل العربي

بتسلم الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب مقاليد السلطة، بعد أدائه القسم على الإنجيل، يكون العالم قد دخل مرحلة جديدة بقيادة دولة يوجد على رأسها رئيس بدرجة رجل أعمال يسير البلد مثلما يسير شركة قابضة.
لقد كان دونالد ترامب واضحا في أول خطاب يلقيه كرئيس، فقد قال بصريح العبارة إن ما يهمه هو أمريكا، ومن بعدها الطوفان.
ولذلك فأول شيء سيقوم به هو تفكيك الإدارة السابقة التي وضعها أوباما، والتي أشعلت نيران الحروب تقريبا في كل المنطقة العربية.
ولعلها مفارقة غريبة أن يكون الرئيس الأمريكي الذي حصل على جائزة نوبل للسلام هو أكثر الرؤساء نشبت في عهده الحروب.
إن المهمة الرئيسية للحاكم الجديد بالبيت الأبيض هي خلق الشغل للأمريكيين، ولذلك فكل ما ستركز عليه الإدارة الجديدة هو جمع المحصول الذي نتج عن ثماني سنوات من مواسم “الدراس” والتدمير التي قامت بها إدارة أوباما، والذي ودع كرسي الرئاسة بدموع التماسيح.
لقد كشف استطلاع رأي أجرته مؤسسة أمريكية شهيرة أن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما كان أسوأ رئيس عرفته بلاد العام سام منذ الحرب العالمية الثانية، أي أنه أسوأ من جورج بوش الابن، فيما احتل رونالد ريغان المرتبة الأولى.
ومعيار هذا الترتيب هو مدى تمتع الرئيس بقدرات تجعله يقود البلد في الحروب إذا استدعت مصلحة البلد ذلك، ويقودها في السلم عندما تنتهي كل الحروب، من هناك احتل ريغان المرتبة الأولى لكونه كان حاسما في الحرب الباردة، وقرارات كثيرة اتخذها ساهمت في إنهاء الاتحاد السوفياتي، وبالتالي خروج الولايات المتحدة الأمريكية منتصرة ومتوجة كقوة واحدة وحيدة مهيمنة على العالم.
وفي حالة أوباما فقد كان طوال ثماني سنوات مترددا، إذ وعد بإغلاق معتقل غوانتنامو لكنه لم يفعل، وكان ضد غزو العراق لكنه ترك بلاد الرافدين تغرق في وحل الطائفية التي تخدم إيران.
كان ضد داعش، لكنه سمح لها بالتمدد كسرطان في منطقة أقرب إلى برميل بارود، كان ضد العرب عموما لكنه كان مع أموالهم واستثماراتهم التي يملكونها في أمريكا، وكان مع إفريقيا في خطاباته الحماسية لكنه لم يفعل شيئا لتنميتها أو إحلال السلم فيها أو القضاء على الإرهاب الذي ضرب أكثر من مرة في السنوات الثمانية لرئاسته.
والأهم أنه كان مع ما اصطلح عليه بالربيع العربي معتبرا ذلك ثورة ضد الاستبداد، لكنه في المقابل ساند حركات الإسلام السياسي لكي تساعده على جني ثمار ثروات البلدان العربية بعد وصولها إلى الحكم، بالرغم من كونها مؤهلة فقط لإسقاط الأنظمة وليس للحكم، بل وساندها حتى عندما كشرت عن أنياب الاستبداد كما حصل في مصر، كيف لا وهو الذي سمح لقطر بأن تكون “سفارته” في الخليج.
ورأينا كيف كان أوباما ضد إيران، ثم كيف قبل بأن يمنح فدية تبلغ 400 مليون دولار لتحرير أربعة أمريكيين، وهي العملية التي تذكر الأمريكيين بأنهم في زمن الضعف، والأسوأ هو التوقيع مع إيران على اتفاق نووي كانت فائدته الاقتصادية والسياسية على النظام الإيراني كبيرة، حيث الإفراج عن أرصدة لمبيعات للنفط الإيراني، وتعليق الحظر على تجارة الذهب والمعادن الثمينة والسيارات، علاوة على الترخيص بإمداد إيران بقطع غيار الطائرات المدنية وترخيص التصليح والخدمات الملحقة، وهو ما يعد أهم مكسب حصل عليه الجانب الإيراني من هذا الاتفاق، لأنه يعني ببساطة تحويل إيران إلى قوة إقليمية تهيمن على المنطقة، وكان من النتائج المباشرة لهذا الاتفاق امتداد إيران في اليمن والبحرين وسوريا.
إذن في الوقت الذي رأيناه يجنح إلى السلم مع إيران رأيناه يعلن أنه ضد العالم السني، مطالبا برحيل الأسد.
وفي النهاية فما حدث هو تدمير سوريا وقتل السوريين من أجل بقاء الأسد، وها هي روسيا تعقد اتفاقا مع تركيا في شأن مستقبل سوريا دون حتى حضور أمريكا، وهي التي كانت تحشر أنفها في كل صغيرة وكبيرة، لكنها الآن ضعيفة ومترهلة.
فلا الأوروبيون كانوا راضين عن أوباما ولا العرب وهم الحلفاء التقليديون للولايات المتحدة، وحدهم الإيرانيون والروس والصينيون يعرفون جيدا أن الثماني سنوات الماضية كانت الأضعف في تاريخ إمبراطورية العام سام، فأحسنوا استغلالها جيدا.
بل إن ضعف أوباما وفر المناخ الطبيعي لنمو حركات اليمين المتطرفة التي ترى في الاتفاق النووي منح الخليج للفرس على طبق من ذهب، سيما في ظل غياب التكافؤ بين إيران وإمارات الخليج.
هكذا تخلى أوباما عن المعارضة السورية التي يمكن أن تشكل بديلا يحقن دماء السوريين، لتتغلغل روسيا في المنطقة، ويتقوى نفوذها إلى درجة أصبحت الوجهة الجديدة التي يؤمها كل من أراد حلا لنزاع. وانتظر حتى بقيت ثلاثة أسابيع فقط على نهاية فترته الرئاسية، ليقوم بقرارات هزلية في الوقت الضائع لولايته المنتهية الصلاحية، حيث طرد 34 دبلوماسيا روسيا ردا على تأثيرها على الانتخابات الرئاسية، مع أنه طيلة 8 سنوات من حكمه رفقة مستشارته هيلاري كلينتون والمرشحة الفاشلة للظفر برئاسة أقوى دولة في العالم، كانت العناوين البارزة لسياسته الخارجية فقدان أخلص الحلفاء كالمملكة العربية السعودية، ومن ورائها بلدان الخليج باستثناء قطر وإزعاج أقوى الشركاء ذوي المصداقية والجدية والشريك الاستراتيجي في محاربة الإرهاب كالمغرب، وإلحاق أضرار كارثية ببلدان عربية وإسلامية، من خلال خلق الفوضى الخلاقة للتحكم في منابع النفط ومقدرات الشعوب، وزرع النعرات الطائفية والعرقية والدينية مع محاولة تمكين حلفائه الإسلاميين من حكم العديد من الدول العربية والإسلامية، واتخاذ قرارات متناقضة ومتضاربة مع إيران وضدها في نفس الوقت، ومحاولة الإمعان في إهانة واستفزاز الدب الروسي، والسعي إلى عرقلة عودته لساحة الفعل العالمية من خلال تحقيق توازن دولي للقوى العالمية في إطار التعددية القطبية.
لقد سعت الإدارة الديمقراطية لزرع بذور الانقلاب على الحليف الاستراتيجي التركي، بتنظيم من عميل للمخابرات الأمريكية تم استقطابه منذ خمسينيات القرن الماضي، واحتضانه وتوفير اللجوء السياسي له بعدما كانت أمريكا تقدم حزب العدالة والتنمية، كنموذج قابل للتسويق في البلدان العربية الإسلامية، في إطار ما يسمى بالإسلام المعتدل.
ولذلك فقد كانت السياسة الخارجية للحزب الديموقراطي بزعامة كل من أوباما وهيلاري كلنتون كارثية ومصدر زرع وإذكاء بؤر التوتر والنزاعات الدولية عوض السعي لإقرار السلم والأمن العالميين، في تناقض صارخ مع ما وعد به أوباما أثناء تسلمه لمقاليد الحكم عندما التزم بسحب الجيوش الأمريكية من المناطق التي احتلتها، وهو ما أظهر أن ذلك الوعد كان مجرد تكتيك للعودة إلى الحروب بالوكالة الذي ميز فترة الحرب الباردة من القرن الماضي.
ولذلك فهزيمة أوباما وحزبه كانت بمثابة جواب من الأمريكيين لساكني البيت الأبيض، وقد كان الجواب صادما إلى درجة إبكاء أوباما وكلينتون، وهي دموع التماسيح التي حاولا من خلالها إثارة عواطف الشعوب العربية التي دمراها وقسماها.
لكن مشاكل العرب ليس أصلها الحمار أو الفيل الأمريكي، بل مشاكلهم مصدرها عقلية البغل التي تعشش داخل شعوبهم وغالبية حكامهم، وذلك بسبب عدم فهمهم للمتغيرات الجيوستراتيجية التي تقوم حولهم، والتي تستدعي الذكاء السياسي والدهاء الدبلوماسي، عوض صم الآذان والعصبية الفارغة والعناد.
فهم لفرط غبائهم ينساقون مثل النعاج وراء الفيل تارة وتارة أخرى ينساقون وراء الحمار، فيما الفيل والحمار مختلفان في كل شيء لكنهما متفقان على “بردعة” البغل العربي وركوبه أطول وقت ممكن.
لقد كانت الشعوب العربية أكبر الضحايا الذين صدقوا الحزب الديمقراطي بأحجية الربيع العربي، والذي مكنهم من ضرب بعضهم البعض بالإسلاميين وفسح المجال للجيوش والطائرات الأجنبية بقصف الأطفال والنساء والشيوخ وتدمير البيوت على رؤوس أهلها لكي يختلفوا في غرف مظلمة بشاشة الجزيرة وهم يتابعون مشاهد القتل والدمار وتفكيك الأنظمة، ويذرفوا دموع التماسيح، كما وقع لبنكيران وغيره ممن صدقوا هيلاري كلنتون.
اليوم مع مغادرة سفراء أوباما لجميع سفارات أمريكا في العالم، وشروع ترامب في ممارسة الحكم فعليا، سيكون علينا أن نفهم أن قوسا سوف يغلق وسيتم فتح قوس جديد.
لقد انتهى عهد الاعتماد على حركات الإسلام السياسي واستعمالها في الحروب والاقتتال الداخلي حول السلطة، فمرحلة “الدراس” قد انتهت وحان موسم جمع المحصول، وهذا بالضبط ما ستقوم به إدارة دونالد ترامب.
وطبعا فالعقل الخفي الذي يرسم خرائط الطريق لساكني البيت الأبيض هو من يقرر، أما المرشح الفائز فمهمته التنفيذ، وهذا العقل الخفي قرر أن ينهي علاقته بحركات الإسلام السياسي في العالم العربي، لأنها أدت دورها على أحسن وجه واليوم جاء وقت جمع الغلة، وحول مائدة الوليمة ليس هناك مقعد لأشباه بنكيران أو الغنوشي أو مرسي أو غيرهم ممن شاركت بهم الإدارة الأمريكية في حلقة للكاميرا الخفية، وها قد حان الوقت لكي يعودوا إلى الكواليس إذا لم يكونوا يريدون أن ينتهوا في السجن كما وقع لمرسي وإخوانه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى