الرأي

الماضي لنا والمستقبل لهم

لا نملك سوى أن نحني رؤوسنا تقديرا واحتراما للثنائي الذي أعلن التبرع للأعمال الخيرية بـ99 في المائة من أسهمهما في شركة «فيسبوك» التي قدرت بمبلغ 45 بليون دولار. أتحدث عن الأمريكي مارك زوكربرج وزوجته بريسيلا تشان. اللذين وجها رسالة بهذا المعنى إلى طفلتهما الأولى التي أنجباها قبل أيام. وذكرا أنهما سينشئان مؤسسة لهذا الغرض، يتوليان إدارتها وهدفها «تحسين الإمكانات البشرية وتعزيز المساواة». لا يغير من التقدير والاحترام كون الرجل ملحدا أو يهوديا كما قيل، لأن أكثر ما همني هو تنامي ذلك النزوع النبيل إلى الخير الذي يدفع نفرا من كبار الأثرياء لأنْ يفكروا بغيرهم ويوجهوا مبالغ هائلة من ثرواتهم إلى أعمال البر، التي تنفع الناس.
قبل مارك زوكربرج وزوجته قرأنا عن عملاق البرمجيات (مايكروسوفت) بيل جيتس وزوجته ميليندا اللذين تنازلا عن 95 في المائة من ثروتهما لأعمال الخير، ورجل المال وارين بافيت الذي تنازل عن 99 في المائة من ثروته. ومؤسس شركة أوراكل للتكنولوجيا لارى أليسون الذي تنازل عن 95 في المائة من أملاكه. وكان زوكربرج وزوجته تشان من الموقعين على «تعهد العطاء» الذي أطلقه بيل جيتس وزوجته بهدف إقناع كبار الأثرياء بالتنازل عن أكثر من نصف ثرواتهم للخير. ودفع ذلك التعهد غير الملزم 138 من كبار الأثرياء في 15 دولة. بينهم عربي واحد هو البليونير السوداني البريطاني مو (محمد) إبراهيم، الذي أعلن التبرع بنصف ثروته لأعمال الخير قبل عشرة أعوام. ومن الموقعين أيضا الباكستاني عارف نقفي الذي أسس شركة عقارية كبرى مقرها دبي.
ليس لدينا ما يثبت أن منهم من فعل ذلك للتهرب من الضرائب كما يقول البعض. لذلك فإننا نغبطهم ونحسدهم ونستحيى منهم. نغبطهم لأن مجتمعاتهم أفرزت أمثال هؤلاء الناس الذين قدموا نماذج نادرة في العطاء والمسؤولية إزاء محيطهم المحلي والإنساني. ونحسدهم لأننا لم نسمع في زماننا وفي بلادنا المكتظة بالأثرياء بأن أحدا منهم فعلها، فقدم ثروته كلها أو أغلبها أو نصفها لمساعدة المحتاجين أو خدمة المجتمع. أما شعورنا بالحياء والخجل فراجع إلى أمرين: الأول أن ثقافتنا اعتبرت العطاء من أركان الإيمان، فضلا عن أن لدينا خبرة تاريخية نعتز بها في هذا المجال. الأمر الثاني أن العالم الغربي نقل عنا هذه القيم فأنضجها وطورها وحولها إلى أحد مصادر قوة المجتمعات وعافيتها، فسبقونا وتفوقوا علينا وأبهرونا، وهذه مسألة تحتاج إلى بعض التفصيل.
في الشق الأول لا نستطيع أن نتجاهل أن المرجعية الإسلامية ممثلة في النصوص الشرعية تعتبر المال مال الله بالأساس، وأن للناس حقا فيه غير الزكاة، التي هي ركن من أركان الإيمان. وهذه الخلفية هي التي فتحت الباب واسعا لمختلف صور العطاء التي كان الوقف أبرزها والنموذج العبقري لها. وأي دارس للتجربة الإسلامية يدرك أن الأوقاف كان لها دورها الأكبر في بناء مجتمعات المسلمين، فالسلطة كانت معنية بالإدارة والخراج والفتوحات، أما ما نسميه في زماننا بالإعمار المتمثل في تقديم الخدمات وتوفير التعليم والرعاية الصحية وشق الطرق وغير ذلك، فقد نهضت به المجتمعات من خلال الأوقاف. وعبقرية الفكرة تمثلت في أن الأوقاف صارت سبيلا إلى عمارة الدارين، في الدنيا والآخرة، ذلك أن الواقف يسهم بعطائه في بناء المجتمع والنهوض به، وفي الوقت ذاته فإنه يتقرب بذلك إلى الله ويثاب على فعله في الآخرة. والدارسون لنظام الوقف يدهشهم تنافس المسلمين على خدمة مجتمعاتهم على مدى التاريخ. والمؤلفات التي عالجت هذه المسألة وفيرة. من أهمها مؤلف الدكتور إبراهيم البيومى غانم «الأوقاف والسياسة في مصر»، الذي سلط الضوء ليس فقط على مساهمات الأثرياء القادرين في عمارة المجتمع قبل تأميمه لصالح السلطة من خلال وقف آلاف الأفدنة والعقارات، وإنما أيضا مساهمات متوسطي الحال والبسطاء التي تمثلت في أسبلة المياه والمظلات التي كانت تقام لحماية الناس من حرارة الشمس وغير ذلك.
في الشق الثاني المتعلق باقتباس الغربيين للفكرة من التجربة الإسلامية فذلك موثق في دراسات أكاديمية عدة. وللفيلسوف الفرنسي مارسيل موس (المتوفى سنة 1950) كتاب مهم في هذا الصدد ترجم إلى العربية بعنوان «بحث في الهبة» ذكر فيه أن فلاسفة عصر الأنوار (القرنان 17 و18) قاموا بدورهم في تأصيل قيم الحرية والعدالة، ولكن قيم العطاء في الثقافة الغربية تم اقتباسها من ثقافة وخبرة المجتمعات الإسلامية. ومن الثابت أن مؤسس عائلة فورد (جد الرئيس الأسبق) كان قد زار مصر في أوائل القرن التاسع عشر وتفقد الأزهر والمنشآت الوقفية في مصر، وعندما عاد إلى الولايات المتحدة فإنه أسس «فورد فونديشن» على غرارها وأن أمريكيين آخرين درسوا نظام الوقف في الدولة العثمانية ونقلوه إلى بلادهم حتى أصبحت أهم وأشهر الجامعات الأمريكية تدار كلها بواسطة الأوقاف. وثمة تفاصيل كثيرة في هذا الصدد تضمنتها رسالة ماجستير حول العمل الخيري في الغرب قدمت بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية للباحثة ريهام خفاجة.
هذه الخلفية نخجل من ذكرها الآن لأن كل ذلك صار عندنا تاريخا نتغنى به ونتحسر عليه، أما بالنسبة إليهم فقد أصبح واقعا يغتنون به ويعتزون به. فاكتفينا نحن بالماضي وفازوا هم بالحاضر والمستقبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى