بانوراما

المبكيات والمضحكات من زمن الرصاص

باقتراب يوم إعلان الحكم النهائي، والذي لم يكن الدفاع متيقنا وقتها من اقترابه، خصوصا خلال الأيام الأخيرة من غشت 1971، كان السجن العسكري يفتح صدره للمتهمين ليخلصهم على الأقل من وطأة السجن في المعتقلات السرية التي كان يحس المتهمون أن دخولهم إليها بعد كل حصة استنطاق، ربما يكون الأخير. لأن فرضية التصفية النهائية أو الاختفاء الكلي كان قائما بقوة، خصوصا في الأيام القليلة التي سبقت العرض على المحاكمة. لكن بمجرد ما افتتحت الجلسات في يونيو وشوهد حضور الصحافة الدولية في الجلسة، تنفس بعض المتهمين الصعداء، خصوصا أحمد بنجلون والحبيب الفرقاني.
بالنسبة لأحمد بنجلون، فقد كان أخوه عمر بنجلون حاضرا في المحاكمة باعتباره محاميا ينوب عن المتهمين ويرافع عنهم وليس عن أخيه فقط. وسيكون مؤلما جدا لأحمد بنجلون أن يتوصل بخبر مقتل أخيه عمر، وهو في الزنزانة يقضي العقوبة التي حُكم عليه بها بعد محاكمة 1971، وسنصل إلى مرحلة النتائج لاحقا.

مقالات ذات صلة

العلاقة مع انقلاب الصخيرات
يقال إن ما جعل وتيرة محاكمة مراكش تسير بسرعة في اتجاه الإعلان عن الأحكام، هو تداعيات انقلاب الصخيرات في العاشر من يوليوز 1971، حتى أن بعض المحامين الذين كانوا حاضرين في محاكمة الجنود المتورطين، كانوا قد عاشوا سابقا تداعيات الجلسات الأولى لمحاكمة مراكش، ولاحظوا كيف أن المحكمة اتخذت مسارا أسرع بعد انقلاب الصخيرات الذي كان ضربة مخططا لها للانقلاب على حكم الملك الراحل الحسن الثاني. أما في محاكمة مراكش فقد كان المتهمون يتابعون للتخطيط لوقائع لا توجد إلا في المحاضر!
وهذا الأمر كان مثارا لسخرية عدد كبير من المتابعين في القضية، لأن الذي خطط فعلا لقلب النظام في المغرب كان من داخل المؤسسة العسكرية واستغل جنود الدولة ومعداتها العسكرية لتنفيذ خطته التي لا ينكر أحد أنها كانت «ارتجالية». لكن العلاقة بين واقعة الصخيرات وقاعة محاكمة مراكش كانت وطيدة، ففي الوقت الذي تم فيه احتواء الأوضاع في الصخيرات بعد يوم عصيب وليلة أشد صعوبة، تم تسريع وتيرة محاكمة مراكش، خصوصا في أواخر شهر غشت لتطوى نهائيا، وقد أحس المحامون والمتابعون من بعيد، أن رئيس المحكمة قد بذل جهده لينال رضى الدوائر العليا، وينتقم من المتهمين شر انتقام. بدا هذا الأمر جليا في الأحكام الصادرة. إذ رغم أن الدفاع كان مطمئنا إلى أنه عرض على رئيس الجلسة كل ما من شأنه أن يقوي الطرح الذي يدافع عنه الدفاع والمتهمون، إلا أن الأحكام كانت قاسية جدا. وتقول بعض المصادر إن الأمر تم محاباة لبعض مستشاري الملك الراحل، خصوصا منهم الذين أصيبوا خلال محاولة انقلاب الصخيرات، وكانت بعض الجهات في القضاء تتخوف من غضب من محيط القصر إذا ما لم تكن الأحكام في حق المتهمين قاسية. إذ أن الدوائر العليا في تلك السنة بالذات، كانت غاضبة وناقمة من كل ما له علاقة بالأمن العام وأجواء الانقلابات، ومن سوء حظ المتهمين في قضية محاكمة مراكش 1971، أن التهمة التي كانت تلاحقهم تتعلق في جوهرها بتهديد الأمن العام وإقامة نظام آخر في البلاد، وهو الأمر الذي جعل من ضرورة استقلال الأحكام عن أي جهة من الجهات، أمرا مستحيلا. لأن الولاءات كانت تُشترى في مثل هذه المواقف بالذات، وهذا ما فسّر بعد سنوات طويلة، قساوة الأحكام رغم غياب الأدلة المادية التي تدعم التورط المفترض في مخطط للانقلاب على النظام في المغرب، وهكذا كانت العلاقة بين الصخيرات وقاعة محاكمة مراكش، واضحة لا غبار عليها.

مؤشرات مبكرة
من المؤشرات المبكرة التي جعلت بعض المحامين، خصوصا منهم المجربين أمثال بوعبيد وبوستة، يعلمون أن واقعة انقلاب الصخيرات ستؤثر لا محالة على محاكمة مراكش، هي الطريقة التي أصبحوا بها يدافعون عن المتهمين بعد الإعلان عن خبر وقوع انقلاب عسكري في قصر الصخيرات واستغلال الكولونيل اعبابو لثقة الملك الراحل الحسن الثاني ليوجه تلاميذ المدرسة العسكرية في «أهرمومو» صوب قصر الصخيرات بشكل مفاجئ، والجميع يحتفل بعيد ميلاد الملك الراحل. بمجرد ما أعلن في الراديو عن فشل الانقلاب العسكري، حتى قفز إلى ذهن عبد الرحيم بوعبيد وامحمد بوستة ومحمد بوزوبع، وآخرين، إمكانية تحول مجرى محاكمة مراكش، لأن التهمة التي يتابع بها المتهمون لم تكن يسيرة، وهاهم العسكريون، المعروفون بالصرامة، سجلوا تمردا غير محسوب، ضد أعلى سلطة في البلاد، ولا شك أن فروع السلطة ستجتهد في الضرب بيد من حديد على محيط الانقلابات وأي قضية أخرى فيها تهديد للأمن العام.
كان حدس محاميي الدفاع صائبا، إذ أن المحيط «المخزني» المجاور لعالم القضاء والخروج بالأحكام التي لم يكن عيبا وقتها الجهر بأنها تُملى عبر الهواتف، كان قد اجتهد وألقى بثقله كاملا على رئيس المحكمة الذي اختير بعناية، بالإضافة إلى النيابة العامة. هؤلاء كانوا جميعا يحومون في فلك معروف تابع لرجال الدولة النافذين، ومكالمة واحدة ستكون كافية لقلب كل شيء.
فرضية أخيرة تقول إن هؤلاء الممسكين بزمام إيقاع محاكمة مراكش، سيجتهدون من تلقاء أنفسهم لجعل الأحكام قاسية حتى لا يقال في الدوائر العليا إنهم تساهلوا مع المتهمين، وهكذا كان عليهم أن يعملوا على الضرب بقوة على يد المتهمين ما دامت التهمة مرتبطة بأمن الدولة وتهديد الأمن العام للمغرب.
الذين كانوا في موقف محرج هم المحامون الذين نصبوا أنفسهم متطوعين للدفاع عن المتهمين، إذ تحدث عبد الرحيم بوعبيد في مذكراته عن مضايقات تعرض لها المحامون بسبب استماتتهم في الدفاع عن متهمي قضية مراكش، بالرغم من واقعة المحاولة الانقلابية الفاشلة في الصخيرات والتي جعلت الجميع يتشددون في مواجهة أي تهمة تتعلق بالأمن العام، مخافة وقوع سيناريو مشابه. يقول بوعبيد إن مهمة الاصطفاف في خط الدفاع عن المتهمين، لم يكن سهلا بعد يوم 10 يوليوز 1971. ومحمد بوزوبع ذهب أيضا في نفس الطرح، إذ أن أصدقاءه قبل أن يصبح وزيرا في حكومة التناوب مع عبد الرحمن اليوسفي، تحدثوا عن مواقفه قبل أن يصبح وزيرا للعدل وقالوا إن أكثر ما يحسب له هو مواقفه الثابتة في محاكمة مراكش 1971، والتي بقي فيها مدافعا عن المتهمين، بالرغم من أن المغرب كان يعيش على تداعيات انقلاب الصخيرات، وكان بعض المحسوبين على الدوائر العليا، يشككون في وطنية كل من يدافع عن متهمي قضية مراكش أو الجنود الذين اقتيدوا كالخراف إلى انقلاب الصخيرات واتهموا جميعا بالخيانة والعمالة للأجنبي، وهي التهمة التي لم تكن سهلة أبدا في ذلك الوقت، خصوصا وأنه تم إعدام العسكريين الكبار الذين كانت تربطهم علاقة وطيدة بالكولونيل اعبابو الذي اعتبر الرأس المدرب لانقلاب الصخيرات.
في الأخير، كان هناك من يبحث عن مزيد من الرؤوس داخل محاكمة مراكش، لشنقها، بعد أن رُمي العسكريون المشكوك في ولائهم، بالرصاص غير بعيد عن قصر الصخيرات. المشكل أم متهمي محاكمة مراكش، كانت قضيتهم أكبر من جعلهم جميعا في خانة خيانة مؤسسات الدولة أو تهديد الأمن العام، فقد كان أغلبهم لا يعلمون أي شيء عما يقع حولهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى