الرأي

المصلحة العامة والديمقراطية

عبد الإله بلقزيز
لم تصب الديمقراطية نجاحا في تنظيم التوازن بين مصالح القوى الاجتماعية المتباينة، داخل إطار الدولة الوطنية الحديثة، إلا لأن مبناها كان على أساس العقلانية السياسية.
ولم تُخفِق البشرية في الاهتداء إلى قواعدَ ثابتة لتنظيم المنازعات بين دُوَلها على المصالح، والسيطرة على هذه بحيث لا تكون سببا لتوليد الحروب، إلا لأن العقلانية غابت من نظام السياسة الدولي وتحكمت في الأخير منازعُ الهيمنة والاحتكار. والحقيقة هذه ترُدّ إلى واقع موضوعي هو الفارق بين الأساس الذي قام عليه نظام الدولة الوطنية ومقابِلِه الذي قام على نظام العلاقات الدولية.
قيام نظام الدولة الوطنية الحديثة كان – وما برِح حتى اليوم- على فكرة رعاية المصلحة العامة بما هي المصلحة الجامعة والمشتركة بين المنتمين إلى الجماعة السياسية الوطنية؛ أفرادا وفئات وهيئات. والفكرة هذه تلحظ حقيقة لا مجال للذهول عنها: لا إمكان لقيام الدولة من دون جامع مشترك تمثله المصلحة العامة. وليس معنى ذلك أن الدولة الحديثة تنكر على مواطنيها حقوقهم في مصالحهم الخاصة، بل هي تسلم بها وتصونها قانونيا ولكن في ارتباطها المَكين بالمصلحة العامة؛ والارتباط هذا هو، بالذات، ما يخلع الشرعية على تلك المصالح الخاصة. إذا كان جون لوك قد أدرك الحاجة إلى الدولة، بما هي حاجة إلى حماية حرية الأفراد ومُلكيّاتهم، فإن الحماية هذه لا تتحقق- على ما يرى هيغل- إلا في نطاق رعاية الدولة للمصلحة العامة وحمايتها سيادتها كدولة. ومع أن مجال المصالح الخاصة هو المجتمع المدني، في فلسفة هيغل السياسية، إلا أن المصالح الخاصة هذه غير قابلة للتحقق إلا من طريق تشريعات الدولة؛ التشريعات التي يؤسسها مبدأ انصراف عمل الدولة إلى خدمة مصالح الكل الاجتماعي.
تختلف قواعد نظام العلاقات الدولية عما يقوم عليه نظام الدولة الوطنية. نعم، صحيح أن النظام الدولي وميثاق الأمم المتحدة يسلم بأن من أهداف النظام الدولي إقرار السلم العالمية ورعاية مصالح «المجتمع الدولي» المشتركة. غير أن التسليم ذاك لا يعدو أن يكون نظريا، أما في الواقع السياسس – أعني في ممارسات الدول وخاصة الدول الكبرى- فالأرجحية للمصالح القومية لا للمصالح الكونية، والسياسات المتبعة، في الحقل الدولي، مصروفة لخدمة تلك المصالح القومية حتى لو اصطدمت بأخرى، حتى لو تولد من الاصطدام بينها نزاع كبير. وللسبب هذا، يفتقر نظام العلاقات الدولية إلى الإسمنت اللاحم الذي تتواشج به الدول في نظام جامع نظير الإسمنت الذي يلحم المجتمع الوطني ويؤسس فيه سلطان الدولة.
هكذا يبدو كيف لحضور العقلانية السياسية هنا وغيابها هناك الأثر الحاسم في تنظيم التوازن بين المصالح أو في ترك حبلها على الغارب؛ ذلك أن ما سميناه تنظيم المصالح (في الاجتماع السياسي الوطني) ليس شيئا آخر غير إرساء قاعدة التوازن بين المصالح الخاصة والمصلحة العامة، وعدم السماح للأولى بانتهاك الثانية أو النيل منها؛ وهذا ما لم تأخذ به الهندسة السياسية للنظام الدولي أو، قُل، ما لم تَرْسُ عليه سياساتُ دوله و، على نحو خاص، تلك التي لا تبغي من النظام الدولي إلا خدمة مصالحها القومية الاستراتيجية. وغني عن البيان أن تنظيمها، على النحو الذي أشرنا إليه، يفترض عقلانية في بناء القواعد وفي إدارة شؤون النظام؛ وهي العقلانية التي جسدها نظام الديمقراطية في الدولة الوطنية الحديثة. من النافل القول إن حديثنا عن العقلانية، هنا، لا ينصرف إلى الوجه الفلسفي والفكري منها، من حيث هي منظومة تفكير مَبْنَاه على العقل، كسلطة معرفية، وعلى قوانينه بما هي قواعد منطقية صارمة، وإنما يعنينا منها تجسيدها المادي (السياسي)، أي ترجمة نظامها المنطقي في العلاقات المادية وفي التنظيم الاجتماعي والسياسي في صورة عقلنة لنظام العلاقات تلك. إن العقل نفسَه ليس شيئا آخر، في معناهُ، سوى التنظيم والضبط والاتساق. وهلِ الديمقراطية شيء آخر غير هذا؛ غير تنظيم العلاقة بين الفرد والمجتمع، المجتمع والدولة، بين المصالح…، بما يُحافظ على وحدة الجماعة السياسية، من جهة، وتمكينها من الموارد والأسباب القمينة بتحقيقها التقدم من جهة ثانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى