الرئيسية

المهدي المنجرة «الأخلاق بوابة العبور للمستقبل»

يونس وانعيمي

نظرا للأهمية البالغة لتخصيص حيز يقربنا من رجال ونساء ساهموا في «صناعة» الوعي بتاريخنا ونسج ما يميزنا حضارة وثقافة ومجتمعا عن الآخرين. لكن الشيء المبدع والصعب في نفس الآن، يتمثل في كيفية اختيار وتحديد أسماء بعينها، نظن أنه بالتطرق «لمساهماتها» سنقرب القارئ من «الذات المغربية» ونقربهم من سماتها وملامحها الفسيفسائية التي ساهم في تشكيلها والوعي بها (ربما) فلاسفة ومؤرخون وفنانون مغاربة.
الصعوبة الثانية تكمن في «بلاغة وبيان» أسماء هذه اللائحة وما لها من اتصال مع ما نصبو إليه..، لأن الحضارة ما هي سوى وعي مسترسل للذات الفردية بالحاضر المندمج في وعيها بالماضي من أجل حرية المستقبل. وهو وعي مركب يساهم فيه «وسطاء» هم مثقفون يدورون (على اختلاف مشاربهم) في فلك التفكير بالذات (من نحن؟) للخلاص من قيودها (كيف نبلغ الحرية؟). سنتطرق لأسماء نؤمن بأنها طبعت تاريخنا الثقافي وطبعت وعينا بذواتنا كمغاربة، ولكن ليست لنا من هذا غايات سردية بيوغرافية حصرية؛ لأننا نظن أن ما يهمنا أكثر ليس كيف عاشوا كأفراد، بل تهمنا فاعلياتهم كمفكرين وماذا أنتجوا، وما يمكن لنا أن نستشف من مغامراتهم في الإجابة عن سؤال (من نحن بالذات في التاريخ والفلسفة والأدب والفن والسياسة؟ وكيف لنا الخلاص نحو الحرية بمعانيها الكاملة؟).

كانت حياة المهدي المنجرة مفعمة وغزيرة بالأحداث، بالإنجازات العلمية الباهرة وبالإخفاقات السياسية المؤلمة، لدرجة يتساءل فيها قراء سيرته كيف أمكن لرجل أعزل، (غير مؤازر مؤسساتيا ولا سياسيا)، أن يخوض «حروبا» فكرية وإعلامية ودعائية ضد مؤسسات دولية عملاقة، كالأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي واليونيسكو، وأن يعادي «بالجهر» الأنظمة الحاكمة في الغرب وفي إفريقيا وينتقد ملكيات عربية وإفريقية كالملكية بالمغرب، بدون أن تكون له أجندة سياسية «نفعية» وبدون أن يحظى بأي دعم مؤسساتي، فقط يسعفه تسلحه بعلمه الثاقب ومعرفته الدقيقة بمآسي العالم وأين يسير.
قصة حياة الدكتور المهدي المنجرة عامرة بالدروس، وأهمها أن حياته الشخصية والعلمية لخصت ذلك التقاطب والصراع الجدلي المستميت بين المعرفة والسلطة، بين الالتزام المعرفي والنفعية. ومع المهدي المنجرة نحن أمام نموذج مثقف شديد الالتزام بأفكاره ومبادئه التي، حسب ما كان يقول، أنها Not For Sale ليست للبيع لأية منظومة في السلطة كيفما كانت. وأهم رسالة معرفية حورب المنجرة من أجلها هي توصيل وتبسيط معلومات شديدة الدقة لأبناء الشعوب، بدون مقابل، حتى ولو تطلب منه ذلك الاعتقال أو الانهيار عياء في ردهات مطارات العالم (طار في حياته أكثر من 5 ملايين كيلومتر).

علم المستقبليات
هل كان المهدي المنجرة عليما بمستقبله وبمصيره، وهو عالم المستقبليات المعروف، عندما غادر المغرب في خمسينات القرن الماضي متوجها لأمريكا لدراسة البيولوجيا والكيمياء؟
بالطبع لا، وكم كان المنجرة يضجر من اعتبار علم المستقبليات كما لو كان قراءة في فنجان المستقبل. ففي أكثر من مناسبة كان المنجرة يؤكد على أمرين حاسمين ينظمان نسقه الفكري:
أولا، لا يمكن استشراف واقع مستقبلي (كيفما كان) بدون الإلمام بالمعطيات التاريخية التي تعطينا ترددات Frequency ومتلازمات حضارية ثابتة. مثلا، كانت هناك كثير من أوجه الشبه التي طبعت كل حالات الاستعمار في التاريخ البشري (ولو بملامح وأشكال مختلفة)، والمستعمر، في نظر المنجرة، كان دوما غربيا وشماليا (وهي حضارات مبنية أصلا على استعمار الآخر بالاعتماد على طمس الحضارات المغايرة وهذا الصلب الخطير في العولمة)، بنفس ملامح الاستغلال الاقتصادي والطمس الحضاري لضحاياه، ونفس مظاهر الاستلاب الخادعة للمستعمر (بكسر الميم)، ونفس المناورات لإفساد السياسة بالدول المستعمرة (بفتح الميم) وإرشاء النخب والأنظمة السياسية الهجينة، ووأد الثقافة والهوية والحضارة التي هي الطاقة البشرية للانعتاق والتحرر من أية تبعية. كل هذه المتلازمات تسمح للمؤرخ والمثقف الملتزم باستشراف المستقبل وفق كل هذه المعطيات المادية التاريخية..، وبالتالي لا مستقبليات عند المنجرة بدون معرفة تاريخية وحضارية رصينة.
ثانيا، وهنا سبب مخاصمة المنجرة للعديد من المثقفين والمؤرخين، فكل مثقف ومطلع على التاريخ، هو مفكر مستقبلي بالفعل وبالقوة. فقط هناك من يلتزم برسالة تنويرية تفيد مصير الأجيال القادمة ويعلن حربا بلا هوادة على «قوى الشر الكامن في العالم»، وهناك من يطمس رأسه في الماضي ويوهمنا بحلول ماضوية جاهزة لحاضرنا الأزوم ويوهمنا بأن المستقبل شيء ميتافيزيقي غير قابل للمعرفة.
ولكن، كيف أنتجت البيئة المغربية مفكرا بهذا القدر من العالمية؟ وهذا القدر من الإخلاص المستميت للأفكار؟ والالتزام الأخلاقي أمامها ودحض كل محاولات الاستلاب بالمناصب الدسمة والسلطوية؟
المهدي المنجرة سليل البورجوازية المغربية الناشئة في بداية القرن العشرين. كان والده تاجرا رباطيا معروفا، كثير التنقل بين الرباط والدار البيضاء، وكان صديقا حميما للفقيه محمد بلعربي العلوي، بل وعاش المنجرة سنوات في بيت رباطي سيصبح هو المقر المركزي لحزب الاستقلال.
في سيرة المهدي المنجرة (الإنسان) كثير من الصدمات التي دفعته لتغيير مسار حياته نحو ما كان عليه.
ففي إحدى العطل الصيفية التي قضاها بمدينة إفران سنوات الأربعينيات من القرن الماضي، وبينما كان متواجداً في المسبح، لاحظ المهدي كلباً يملكه أحد المستعمرين الفرنسيين يشرب من ماء المسبح، فاحتج المهدي على ذلك، فرد عليه الرجل الفرنسي: طالما العرب موجودون في المسبح لماذا نرفض الكلاب؟
فرد المهدي على ذلك العنصري بكلمات واصفاً إياه بأوصاف عبرت عن غضبه ورفضه لتلك الكراهية والعنصرية المرضية والفوقية إزاءه كمغربي. ولم يكن ذلك العنصري إلاّ أحد المستعمرين الذي يمثل رئيس فرقة الأمن الإقليمي بإفران، فلم يتردد في استدعاء الشرطة وتم اعتقاله لمدة عشرة أيام. يقول المهدي المنجرة إن الحادث مسه في وجدانه، وكان بمثابة الفصل في حياته الفكرية والتأمّلية في ما بعد.

رفض التجنيد
الحادث الثاني الذي طبع حياة المهدي ومساره الأكاديمي، كان سنة 1953، عندما جندته السلطات الأمريكية (وهو طالب يحمل بطاقة الإقامة الخضراء) للمشاركة في الحرب الكورية. بعد رفضه القاطع للتجنيد، اضطر لمغادرة الولايات المتحدة الأمريكية والتخلي عن دراساته في مجال البيولوجيا والتوجه نحو لندن لمتابعة دراسته العليا بكلية لندن للاقتصاد، حيث قدم أطروحته لنيل شهادة الدكتوراه حول موضوع «الجامعة العربية.. البنية والتحديات». ولأن الحياة اللندنية في تلك الحقبة كانت حافلة باللقاءات السياسية والثقافية لمختلف النخب الدولية، وخصوصا العربية، تفتق الاهتمام السياسي والقومي للمهدي وهو ما دفعه للعودة إلى بلاده من أجل الإسهام في مشاريع تنميتها بعيد استقلالها. وهنا الحادث الثالث الذي طبع حياته.
ففي سنة 1957 عاد إلى المغرب ليعمل أول أستاذ محاضر مغربي بكلية الحقوق، وتولى في هذه الفترة إدارة الإذاعة والتلفزة المغربية بعد أن عينه الملك محمد الخامس على رأسها. انزعج ولي العهد آنذاك، الأمير الحسن، من شيئين بخصوص المهدي المنجرة. ملازمته المستمرة لمهدي آخر أكثر إزعاجا وهو بن بركة، بل ومساهمة الرجلين في تحديد ملامح وسياسة تحرير الإعلام الوطني آنذاك، ثم تلكؤ المهدي المنجرة الإرادي في جعل الإذاعة الوطنية «طبالا للبلاط» وإلغاؤه البث المباشر للعديد من خطابات الملك محمد الخامس على أثير الإذاعة الوطنية. عرض عليه الحسن الثاني مناصب أخرى مقابل ترك الإذاعة (وزارة المالية)، لكنه رفض بحجة التفرغ للثقافة والبحث العلمي، حيث عُرف بمواقفه المعارضة لسياسة ملك المغرب الحسن الثاني رغم أنه كان زميله في الدراسة. عذر تفهمه الملك واقترح عليه منصبا علميا مرموقا، ألا وهو الرئيس العام للجامعات، وطلب منه تحضير ورقة طريق للإصلاح الجامعي، لكن صدمة المنجرة كانت كبيرة عندما لم يتم التأشير الإداري والقانوني على منصبه الذي بقي معلقا بالأمانة العامة للحكومة. جمع أغراضه وعاد لهيئة الأمم المتحدة.
كواليس الأمم المتحدة تعرف جيدا الدكتور المهدي المنجرة، بل تعلم مواقفه التي كان يعبر عنها بطلاقة استثنائية. ونحن نعدد كل هذه المناصب الدولية المرموقة التي حظي به الدكتور المنجرة، يوحى لنا بأن الرجل يجري وراء المناصب في صالونات الهيئات الدولية، لكن الواقع هو أن المناصب هي التي كانت تجري وراءه. يقبلها على مضض وبشروطه، وسرعان ما يتركها لعدم ملاءمتها لمبادئه، وهذا ما يفسر كون المهدي المنجرة ظل دوما يفضل أن يكون بلا منصب وأن يتحرر من قيود بروتوكولاتها لكي يعبر بحرية عن مواقفه وقراءاته.
بعد تأليفه كتاب «نظام الأمم المتحدة» سنة1973، خرج من هذه المؤسسة الأممية سنة 1976 وتخلى عن جميع حقوقه فيها من تقاعد، وتخلى معه عن الاستفادة من راتبه، بعد تيقنه أن القيم التي تسير عليها الأمم المتحدة، وتخدم لصالحها، هي القيم المسيحية اليهودية.

منعطف فكري
في هذا المنعطف من حياته المهنية، سيعيش المنجرة منعطفا فكريا وسيضع بشكل نهائي مصيره الحياتي والمعرفي في سبيل نصرة قضايا التنمية البشرية الشاملة والتنوير بخطورة الانجرافات الحضارية التي تسبب بها الغرب.
ومن بين أكثر الأنماط تزييفا وتنميطا للإنسان من أجل استغلاله، هي هذه الفكرة اللامعة المسماة «حداثة». فالمهدي المنجرة يقر، في كثير من كتاباته، بأنه مادام ليست هناك فرص لكل الناس في العالم في امتلاك المستقبل، وما دمنا نحكم الإنسان في القرن 21 بمؤسسات قديمة متقادمة تشكلت في القرن 18 (وزارات، برلمانات…) ليست ذكية ولا تنتج حلولا ناجعة للحرية، وما دام النظام العالمي الجديد لا يمتلك مقاصد ولا عقيدة ولا رؤية أخلاقية مشتركة، وما دام العنف الدولي حاجزا كبيرا أمام التعددية الثقافية، فإن هذه المسماة «حداثة غربية» ستفرض علينا نموذجا جاهزا محدودا ثقافيا باسم العولمة، وتسلب منا حق التفكير واختيار مستقبل مشترك نكون فاعلين في إنتاجه.
لكن المنجرة لم يكن مصابا «بوسواس قهري» ولم يكن كالدونكيشوت ديلامانشا يصارع في مخيلته مطاحين هوائية. بل كان يتوفر، بفضل خبرته وعمله بمؤسسات اقتصادية وثقافية عديدة، على رزنامة من ممارسات تنموية فضلى، يراها مفيدة لدول «الجنوب». ومن خلال عمله مستشارا استراتيجيا في مشروع «التنوع الثقافي والهجرة» بمركز الدراسات الاستراتيجية باليابان، تقرب المنجرة أكثر وبتفصيل من مقومات ما يسمى «المعجزة اليابانية».
هي تجربة حضارية متميزة ولا يطبعها أي إعجاز سوى أنها اعتمدت على مقومات حضارية رصينة يراها المنجرة مفاتيح مناسبة لتنمية دول العالم الثالث. أول مقوم هو انطلاق المشروع الياباني من مقومات حضارية ذاتية (تأصيل الهوية واللغة والمعتقد) وجعلها لا تتناقض مع شروط التقانة technicité التي تفرضها العولمة. لكنه يحذر من الوقوع في خطأ نسخ التجارب الحضارية بحيث لكل حضارة مقوماتها، فقط تنبغي معرفة هذه المقومات والاعتراف بها وعدم الإحساس بالدونية تجاهها (وهذا ما يفعله بنا الغرب)، ثم عدم الإطناب في الانكماش عليها من أجل قبول ثقافة وتقنيات ذلك الآخر (الأكثر تطورا منا).
مع الأسف، أنهى المنجرة حياته ببلده وهو يعيش على وقع الحصار الممنهج لندواته. منعته السلطات المغربية لأكثر من 15 مرة من إلقاء محاضراته… وهو في قبره، لم ييأس من المستقبل وأوصى زوجته الأستاذة أمينة المريني (أخت عبد الحق المريني، الناطق السابق باسم القصر)، بمنح مكتبته الخاصة للمكتبة الوطنية بالرباط، حتى ينهل منها الطلاب والباحثون الذين لم تتح لهم فرصة حضور ومواكبة محاضراته بسبب المنع.

في سطور
ولد المهدي المنجرة في 13 مارس 1933 وتوفي في 13 يونيو 2014.
اقتصادي وعالم اجتماع مغربي مختص في الدراسات المستقبلية. يعتبر أحد أكبر المراجع العربية والدولية في القضايا السياسية والعلاقات الدولية والدراسات المستقبلية. عمل مستشارا أول في الوفد الدائم للمغرب بهيئة الأمم المتحدة بين عامي 1958 و1959، وأستاذا محاضرا وباحثا بمركز الدراسات التابع لجامعة لندن (1970). اختير للتدريس في عدة جامعات دولية (فرنسا وإنكلترا وهولندا وإيطاليا واليابان)،
وشغل باليونسكو مناصب قيادية عديدة (1961-1979). هو خبير خاص للأمم المتحدة للسنة الدولية للمعاقين (1980-1981)، ومستشار مدير مكتب العلاقات بين الحكومات للمعلومات بروما (1981-1985)، ومستشار الأمين العام للأمم المتحدة لمحاربة استهلاك المخدرات. كما أسهم في تأسيس أول أكاديمية لعلم المستقبليات، وترأس بين 1977 و1981 الاتحاد العالمي للدراسات المستقبلية. وهو عضو في أكاديمية المملكة المغربية، والأكاديمية الإفريقية للعلوم، والأكاديمية العالمية للفنون والآداب، وتولى رئاسة لجان وضع مخططات تعليمية لعدة دول أوروبية.
حاز على العديد من الجوائز الدولية والوطنية، من بينها وسام الشمس المشرقة التي منحها له إمبراطور اليابان.
يتمحور فكر المنجرة حول تحرّر الجنوب من هيمنة الشمال عن طريق التنمية، وذلك من خلال محاربة الأمية ودعم البحث العلمي واستعمال اللغة الأم، إلى جانب دفاعه عن قضايا الشعوب المقهورة وحرياتها، ومناهضته للصهيونية ورفضه للتطبيع. وسخر المنجرة كتاباته ضد ما أسماه «العولمة الجشعة». وألف المهدي المنجرة العديد من الدراسات في العلوم الاقتصادية والسوسيولوجيا وقضايا التنمية، أبرزها «نظام الأمم المتحدة» (1973) و«من المهد إلى اللحد» (2003) و«الحرب الحضارية الأولى» (1991) والإهانة في عهد الميغا إمبريالية (2003).

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى