الرأي

الموسيقى المنعشة

أرسل إلي المهندس رشيد من الأحساء يقول إن هناك من يدلل بالآية من قوله تعالى من سورة لقمان على أن الموسيقى حرام، وهي (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ) (لقمان:6)؟؟
ويعقب الرجل وهو ملتاع محتار أنه من الواضح أن الآية هنا تتحدث عن الكلام وليس اللحن (لهو الحديث)، والفرق واضح بين اللحن والحديث، ولكن لو فتحت لهم طريقا في السماء فسلكوه، ولو بنيت لهم سلما فصعدوه، ولو قطعت لهم الأرض وكلمهم الموتى وبعث لهم كل شيء قبلا لقالوا إن هذا لسحر مبين.
ومنذ القديم لم يفعل الجدل تقديما في الوصول إلى الحقيقة، بقدر زيادة شحنة الكراهية والجدل العقيم، ولذا نصح (براين تريسي)، عالم النفس، في كتابه «أسس علم نفس النجاح»، أن لا يجادل الإنسان (Don’t argue) لأنه لن يتقدم إلى الحل إلا بعدا عنه، ومن يحاور من أجل الوصول إلى الحقيقة لا وجود له إلا في القواميس؟ والوردي، عالم الاجتماع العراقي، قال من رأيته يتحدث عن النزاهة فشك في نزاهته، ومن رأيته يتحمس للحق فانساه، ومن رأيته يتحدث عن المنطق فاعرف أن المنطق موجود في كتب المناطقة، ويقول الوردي إن العقل عند الإنسان وظيفته البقاء أكثر من الإدلاء بصحيح الحجج، وهو للإنسان مثل الناب للأفعى والساق للنعامة والقرن للثور والمدرعة للسلحفاة، أي أنه عضو خلق للبقاء.. ويقول في كتابه «مهزلة العقل البشري» إنه ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، أو في مجلس، يتناقشان، إلا حرص كل فريق على تجنيد كل الأدلة العقلية والنقلية لطرفه..
فهل الحقيقة ضباب ورمال؟؟
والجواب نعم، إن البحث والنقاش لا يقرب من الحقائق بقدر النتائج، وهو أمر حصل في التاريخ وتكرر ولا يتعلم البشر بأكثر من تعلم الحمير إلا بقليل من التجربة، والحمير لا تستفيد من التجربة على ما يبدو..
ومثلا على ذلك حين تقدم الجراح، كتشنر، إلى مؤتمر جراحة العظام في كولن عام 1954 م يزعم فيه أنه يعالج الكسور بالحديد من السفافيد والبراغي والصفائح والأسلاك مثل ورشة الحدادة؟ فزلزل المؤتمر زلزالا شديدا؟ وهموا بمسكه من تلابيبه؟
وقام جراح عظام نمساوي يعتبر حجة في العلم، فقال: اليوم انفطرت السماوات وانشقت الأرض وخرت الجبال أن ادعى كتشنر هذا؟؟
واليوم في كل مشافي الدنيا تعالج الكسور بالحديد؟؟
وهذا يعني أن النقاش والكلام (اخرطي) كما يقول السعوديون، ويجب أن يكون الإنسان حذرا جدا فيه، وجد لطيف وإنساني لعله يتذكر أو يخشى..
ووقع تحت يدي كتاب لابن حزم الأندلسي يوما، فقال الرجل: تمنيت أن أعثر على أثر واحد صحيح قوي في التحريم؟
ولكن الفقهاء يقولون عن ابن حزم: من الحزم أن لا تتبع ابن حزم؟؟ لأن الرجل كتب في الحب والغرام، كما كتب في الاستنجاء والاستبراء والحيض والطلاق؟؟
واليوم الموسيقى تصدح في كل واد وناد وفضائية ومع كل مجون بغداد أيام أبو نواس والمخنثين واللوطيين والعهرة الفجرة مع قلة الحياء..
سئل مالك بن نبي عن فتوى الموسيقى أجاب أنا أنظر إليها من زاوية الحضارة؛ فالموسيقى إما كانت تعبيرا علويا عن روح حضارة تنهض، فكانت يقظة للروح، أو كانت عهرا ومجونا وقلة حياء، كالذي يغشى عليه من الموت..
وما نشاهده في كثير من الفضائيات أن المغنية تغني بجسدها أكثر من صوتها داعية الشباب المساكين للفاحشة تحت دعوى الحرية؟
لقد ركبت يوما في باص متوجه من دمشق إلى حلب؛ فاستنجدت بالسائق، وقلت له إما نزلت وإما أنهيتم حفلة الضرب على رأسي وكففتم عن هذا الصريخ والبعيق والنهيق؟؟
لقد كانت حفلة تعذيب حقيقية، كما سمعتها في الحلبوني، في الفرع 273 في فرع المخابرات العامة، في حفلات الجلاد أبو طلال والمساكين المجلودين بالخيزارانات المبللة؟
وفي يوم أصابني الوباء السلفي، فكنت أعظ الناس في المساجد، بأحاديث من هنا وهناك ضعيفة بسيقان ضعيفة واهية، ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية..
كنت أقول لهم إن الله سوف يعاقب من يسمع امرأة تغني، بأشد من تعذيب مخابرات فرع فلسطين، تمال فيه الأذن، ويوضع فيها قمع زيت، ثم يصب في الأذن الوسطى رصاص مذاب بدرجة حرارة 800؟!..
الحديث الضعيف (من استمع إلى قينة صب الله في أذنيه الآنك يوم القيامةـ والآنك الرصاص المذاب؟؟)…

وكان عندي من وهج وجنون هذه الأيديولوجية، أن أنزل من السيارة إذا لم يغلق السائق صوت الحرام، والمسكين يمكن أن ينعس؛ فيعرضنا لحادث قتل، والجمال والحمير والبغال تمشي على صوت الحذاء..
ولكن عقولنا أسمك من البغال والحمير..
هكذا حتى انقشعت عني حمى السلفية؛ فبدأت أفكر لنفسي، وأكتشف الإسلام اكتشافا جديدا، كما حصل مع الصحفية البريطانية التي أمسكت بها جماعة الطالبان، ووعدتهم بالاطلاع على القرآن، فولت إلى قومها فقالت كما قال الجن، إني سمعت قولا يهدي الى الحق وإلى صراط مستقيم، يا قومنا أجيبوا داعي الله..
واليوم أسمع الموسيقى المنعشة الخالدة؛ فأشعر بتيار كهربي يقشعر منه جلدي، فيلين قلبي، وتخر مدامعي، من ذكريات جميلة طواها الزمن، وكأنها تتسربل بأغلفة من ضباب لا نهائي بارد منعش من جبال عسير، وتنزيل من التنزيل، وحيا من السماء بدون كلمات..
إذا كان للحياة معنى فهي بالروح، والموسيقى المنعشة، في عالم يتحلل ويغيب في ضباب ورمال، بين أرواح وأشباح تفنى بانتظام، وانسجام الروح في الصلاة، واكتشاف العلاقات الخفية بين المعادلات، والعودة إلى جنة الطفولة.
أو الاجتماع بأناس ترى فيهم عظمة الله، كما اجتمع النبي موسى مع ذلك الرجل العجيب، الذي ثقب سفينة، وقتل غلاما، وأكرم قوما طردوه ببناء جدار لهم يريد أن ينقض؟؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى