الرأي

الوعي المحبوس بزنزانة الماضي

بقلم: خالص جلبي

 

 

يبدو أن الوعي محبوس في قبضة الزمن بدون أي أمل في النجاة، ومن الأفكار التي تتكرر عن الوعي جدلية الوعي واللاوعي، وغطس المعلومات في اللاوعي قبل انبثاقه إلى الوعي، فقد استطاع (بنيامين ليبيت BENJAMIN  LIBET)، الباحث في فسيولوجيا الأعصاب من جامعة كاليفورنيا بسان فرانسيسكو، فتح عاصفة من الإثارة حول ظاهرة ما يعرف الآن بـ(فترة الحضانة) بين الفكر والعمل وبشكل معكوس.

وتم كل هذا من خلال تطوير تقنيات جديدة من ملامسة قشرة المخ مباشرة بواسطة مسابر خاصة، ودراسة الزمن بين التحريض أو تلقي التحريض، بمعنى البدء بإشارة التفكير، فالذي يقوم بالتجربة يبدأ الفعل، ولكن الفعل لا يبدأ فوراً، بل يغطس في عالم آخر يُعالج فيه ويتفاعل قبل أن يطل برأسه في عالم الوعي ليلحق بالأمر، كما أن العكس صحيح فعندما تمس اليد لا نتلقى الأثر في الدماغ إلا بعد مرور أجزاء من الثانية، تتراوح بين ثلث ونصف ثانية.

هذه التجارب أثارت عاصفة فلسفية، فالإنسان يبدو وفق هذا المنظور خارج الزمن تماما، ويعلق تشارلز فورست على ذلك بقوله:

(وقد يكون التأويل الممكن لهذا الاكتشاف هو أن العصبونات المسؤولة عن الإدراك الواعي توجد في مكان آخر غير قشرة الدماغ، وقد تعكس فترة الحضانة للتنبيه القشري في تجربة واعية التشارك بين الوعي والتعقيد العصبي الفيزيولوجي).

 

تسخير علم النفس للدعاية (تمرير المعلومات مباشرة إلى اللاوعي):

وتبرز هنا حكمة ملفتة للنظر في جدلية العلم والضمير، مما جعلت الفيلسوف الألماني (إيمانويل كانط) أن يطلب من تلاميذه أن ينقشوا على قبره من بعده هذه العبارة: «شيئان يملآن صدري بالإعجاب: السماء المرصعة بالنجوم فوق رأسي، والقانون الأخلاقي في صدري»؛ فــ(كوانتم الوعي) تم استخدامه في التلاعب بعقول الناس، كما هو الحال في الديمقراطية الغربية، التي يمكن وصفها بأنها أقل الأشياء سوءا في العالم، فظاهرة التمثيل النيابي تخضع لجبروت المؤسسات المالية، مما لا تجعل التمثيل صحيحا تماما.

وبالطبع لا يمكن مقارنة هذا بأوضاع دول شتى من العالم، التي لا تعرف نظام نقل السلطة السلمي بالكامل ولم تسمع به..

أما في الجملوكيات العربية من سوريا لتونس والجزائر والعراق وأفغانستان وأرض الكنانة؛ فهي مسيرة من الباب للمحراب بقوة الطبنجة والغدارة وشوارب المخابرات!

أما الانتخابات؛ فهي أقرب لصدق الواقع الميت؛ فهي تعيش كالسلاحف منبطحة أيام المملوك الشارد كما رواها جرجي زيدان!

ولعل أجمل ما في الديمقراطية هي هشاشتها وإمكانية نقدها من داخلها، كما فعل نعوم تشومسكي في كتابه المزلزل «ردع الديمقراطية».

كذلك حصل مع نظرية الكوانتوم في الوعي، فيمكن استيعاب ما يمر في التلفزيون أثناء تمرير كمية من المعلومات السياسية أو التجارية بالسرعة المألوفة، ولكن حين يتم التحكم بالسرعة، بحيث تراهن على بطء (الوعي) في الاستيعاب؛ فإن هذه المعلومات ترى بالعين وتسمع بالأذن، ولكنها عمليا لا ترى ولا تسمع، ذلك أنها تسربت عبر منافذ اللاوعي، ويبقى الإنسان يتذكرها وكأنه رآها فعلا، بسبب تدفقها المباشر إلى مخزن اللاوعي في الذاكرة، وهكذا يمكن التلاعب بالإنسان من خلال تسخير العلم. 

ولقد تم الكشف عن هذه الحيل وفاحت رائحتها آلية السطح، ولكن يا ترى كم من هذه الحيل العلمية تستخدم اليوم للتلاعب بالإنسان تحت اسم العلم والتقدم؟  

وما يقرب من هذا الطب السري الذي يحقن في عروق شخصيات وقادة العالم المرضى الأشباح، بحيث يحافظون عليهم جثثا ميتة وغير ميتة، كما في جثة سليمان، فيتحكمون بالوسط من حولهم ويلعبون بمصائر الأمم، على تعبير رجل المخابرات الأمريكي في كتابه المشهور «لعبة الأمم».. فما دلهم على موته إلا دابة الأرض تأكل منسأته فلما خر تبين الجن أن لو كانوا يعلمون الغيب ما لبثوا في العذاب المهين!

 

بنتاغون (خماسي) الأخلاق عند داماسيو:

انطلق داماسيو وهو طبيب أعصاب أمريكي يشتغل في مركز هام للصرع، من محاولة الوصول إلى منابع المشاعر الأساسية؛ فاعتبر أن هناك خمسة مشاعر تشكل حزمة وجودنا العاطفي بالكامل، فكما كانت الألوان الأساسية الثلاثة: الأزرق والأحمر والأصفر، هي التي تكون بقية الألوان، كذلك فإن تحليل أي موقف عاطفي يرجع إلى طيفٍ من ألوان شتى من المشاعر، ولكن قاعدتها هي مزيج معقد من خمسةٍ من المشاعر القاعدية، فإما الحزمة الخماسية للمشاعر فهي:

السرور، والحزن، الغضب والخوف، والاشمئزاز…

هذه واحدة ومضى داماسيو في تدعيم نظريته إلى أن الجسم والدماغ هما في حوار ودي لا يعرف التوقف والانقطاع، آناء الليل وأطراف النهار؛ في تسبيحة متواصلة، ليصل في النهاية إلى تعليل ما أصاب مريضه إيليوت، الذي دخل مسمار في جمجمته ولم يمت، ولكنه فقد كل مظاهر الحكمة في التصرفات..

إن الذي حدث هو انقطاع (كابل) التواصل العاطفي العقلي، فكما كان للماكينة (جير) التعشيق مع عمود الحركة، كذلك لعب الفص الجبهي في الدماغ هذا الدور، في جدلية المشاعر والتفكير المنظم التحليلي.

إن داماسيو بهذا الطرح يزعم أنه وصل إلى تحديد الوعي وآلية عمله عند الإنسان، لذلك فهو يرى أن طرح ديكارت في مقولته المشهورة: (أنا أفكر أنا موجود) هو خاطئ.

داماسيو بهذا الطرح يضع يده على مفاتيح جديدة في فهم آلية عمل الوعي والدماغ.

 

بين ديكارت وداماسيو: أنا أفكر .. أنا موجود! أنا موجود أنا أفكر:

في أحد التجليات الروحية كاد دماغ ديكارت أن يحترق، وهو يتعذب في ظلمات الشك الحالكة.

وهو يقول كما قال الغزالي سابقا:

ليس هناك من شيء يمكن أن يستقر أو يقف على قدميه. لأنني أشك في كل شيء. لم يعد هناك شيء لم أعد أشك به، فكل ما تعلمناه بني على التقليد لا أكثر.

ثم أنقدح نور في هذا الظلام، بدأ يكبر وينير رحلة العقل المضنية، وشعر ديكارت بالتماسك بعد هذا الدوار العقلي. نعم إنني أشك في كل شيء، ولكن هناك شيء لا أشك فيه وهو أنني أشك!

إذا أنا أفكر لأن الشك تفكير، وإذا كنت أفكر فهناك حقيقة موجودة ولاشك، وهي حقيقة عقلية بالدرجة الأولى، فأنا موجود على صورة من الصور…. أنا أفكر .. إذاً أنا موجود …

هذه هي الحقيقة الديكارتية، التي كانت أحد مصابيح التنوير في النهضة الأوربية، وكانت قبسا من وهج عقلية الغزالي، الذي سار بنفس الخطوات، ولكن نهاية ديكارت كانت نهضة عقلية، في حين أن نهاية الغزالي كانت انتحارا صوفيا على ضرب صنج الحضرة.

وعندما يدخل الإنسان تلك النشوة الروحية ويتم اغتيال عقله بالكامل، ومصادرة كل إمكانية تفكير، تحت ثلاثة شعارات: من قال لشيخه لا.. لم يفلح. والمريد بين الشيخين كالمرأة بين الرجلين… والمريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي المغسل.  

يزعم داماسيو أن ديكارت يجب أن يقلب الآن رأسا على عقب، لأن مركز الوعي هو في تلك الجدلية التي يبدأ الدماغ رحلتها، فمع (وجود الدماغ) أمكن للروح أن تتنفس، فالبدن هو تجلي الروح وتعبيرها وطريقة تنفسها في جدلية وضفيرة لا تقبل الانفصام. 

أراد داماسيو أن يكتب في الأول كتابا بعنوان خطأ ديكارت، ولكنه بعد مؤتمر سان دييغو بدله إلى عنوان:

ديكارت مقلوبا.. أنا موجود.. أنا أفكر.

 

 

 

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى