الرأي

انتخاب أول عمدة مسلم لإدارة العاصمة لندن

بتاريخ السادس من مايو 2016م كان تنظيم داعش الإجرامي يوجه ضربة في العاصمة المصرية القاهرة؛ فيقتل ثمانية من عناصر الأمن، أحدهم برتبة ضابط. وبنفس التوقيت كانت لندن العاصمة البريطانية تحتفل بتتويج أول عمدة مسلم هو صادق خان من أصول آسيوية، للعاصمة البريطانية لندن وتضع تحت يده ميزانية 14 مليار جنيه إسترليني.
إنه يوم أسود في تاريخ مصر الحديثة كما أنه تاريخ رائع للعاصمة البريطانية المسيحية التي تولي إدارة شؤون دفتها لرجل مسلم ينطق الشهادتين.
بإمكاننا توجيه تحية للديموقراطية البريطانية مع ربيع عام 2016م، والبكاء على أطلال المجتمع العربي الذي مازال يعيش مرحلة العصور الوسطى عام 1437م ما قبل عصر التنوير وانقلاب أوربا من خلال قيم الثورة الفرنسية (الإخاء المساواة الحرية، كما وصفها فيكتور هوجو في روايته (أحدب نوتردام).
ولكن ما الذي جعل الرجل صادق خان يتبوأ منصبه الجديد وماهي عناصر فوزه؟
استفتح الرجل خطبة توليه المنصب بكلمة (أنا خان) ليترك في الذاكرة بقية قصة الفيلم الهندي (أنا خان لست إرهابيا).
الفيلم يروي قصة شاب هندي مسلم مصاب بالتوحد، يدخل الأراضي الأمريكية، وحين يسأله ضابط الحدود عن سبب رحلته لأمريكا؟ يجيب: أريد مقابلة الرئيس الأمريكي. يضحك طاقم التفتيش الأمريكي من خطورة الكلمات ويشتبهوا في طبيعة المهمة التي جاء بها، وهم المصابون بالتوحد من نوع آخر في هوس كشف المتطرفين، ثم يبدأ التفتيش ليكتشفوا أنه رجل مصاب بالتوحد لا يعرف تماما كيف يقدم نفسه.
مرض التوحد يخلع صاحبه من عالم الواقع إلى عالم داخلي مغلق محكم التوجه والكلام والتصرف، وهو تحد كبير للأهل حين يفاجؤون بطفلهم مصابا بالتوحد، فهو مرض جديد يضرب بشدة، صعدت نسبة إصابته في أمريكا إلى 18 بالمائة، وفي كوريا الجنوبية إلى حواف ثلث الأطفال القادمين للعالم.
(صادق خان) ليس مصابا بالتوحد، بل يحمل عبقرية متوهجة وجلدا ودأبا لا يعرفان النوم والاستقالة، ولكن لم ينجح إلا من خلال حزب العمال البريطاني. ولأنه ولد وتربى في بريطانيا من أب يعمل سائقا لباص؛ فهو حرق المراحل إلى أعلى عليين بفعل تفوقه، وليس لأنه من عناصر حزب البعث القائد، أو مقرب من الرفيق القائد، إلى آخر أمراض الديكتاتوريات، بل بفعل آلية صعود الفرد في السلم الاجتماعي بالكفاءة، والكفاءة بالدرجة الأولى.
الذي رفع (صادق خان) إلى سدة عمدة لندن ليس لأنه يقوم الليل، ويصوم كل اثنين وخميس، ويحج ويزكي فهذه تخصه ولا تخص تعقيدات العاصمة العريقة. ليس لأنه يؤمن بجهاد الكفار باللسان والسنان وحافظ جزء عم يتساءلون. ليس لأن سجل نضاله كان في الدعوة إلى دخول الإسلام، بل دخول الرجل في دين الملكة إليزابيث، وهو دين الكفاءة والمساواة والعدل والعمل والرحمة، وهو ما جاء به الأنبياء والمرسلون والمصلحون والفلاسفة أجمعين، ومنهم رسول الرحمة (ص) الذي ينتسب له الرجل، الذي لا يستبعد أن يقفز في المستقبل إلى منصب رئاسة الوزراء البريطاني، مثل توني بلير وتاتشر وكاميرون، حينها لن يحكم بالشريعة الإسلامية، بل بالعدل الذي جاء به الأنبياء والمرسلون، وغاب عن وعي المسلمين المعاصرين، الذين أصيبوا بداء الأمم، من نشافة عقولهم؛ فأصبحوا حجارة أو حديدا أو خلقا مما يكبر في صدوركم، وقساوة قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة، وإن من الحجارة لما يتشقق فيخرج منه الماء؟
وبالمناسبة فإن المرشح لعمدة برلين أيضا من أصول فلسطينية، يروي عن والده حين هاجر إلى ألمانيا، أنه قال لأولاده انسوا الشرق، وكونوا عناصر لائقة، وممثلين جيدين للأمة التي خرجتم من رحمها، وجديرين للانتساب إلى المجتمع الألماني. وأول شيء علينا الإمساك به وهو مفتاح المفاتيح، التمكن من ناصية البيان، فلم يرسل رسول لقومه إلا بلسانهم ليبين لهم.
الدول القوية لا تهمها عقيدة المواطن، وبأي دين يدين وفي أي معبد يصلي، وإلى أي قبلة يولي وجهه، بل بقوتها الساحقة الماحقة، تطحن الأفراد الذين يدخلون ماكينتها الجبارة؛ فتستخدمهم في وظيفتها الحضارية، على شكل قطع غيار حيث تحتاج؛ عمدة عاصمة، أو طبيب إسعاف وجراحة، أو عامل سكة حديد وموظف هجرة وضابط حدود وجامع أزبال؛ كما في حسن من مدينة (أحفير) من الريف المغربي الذي اجتمعت به في باريس.
هكذا رأيت أنا شخصيا حين انتقلت إلى ألمانيا للتخصص؛ فوضعوني في المكان الذي يحتاجون، وكان الشرط الأول لتحصيل الوظيفة والرزق، التمكن من اللغة الألمانية نطقا وكتابة (Beherschung der deutschen Sprache im Wort und Schrift)، وهو ما يذكرني بمأساة دول الخليج، أن الشرط الأول للعمل التخلي عن لغة الضاد، كما جاءني التوجيه من مدير المشفى، حين كنت أعمل في عسير تحت أمرة طبيب نيجيري عنفني لأنني كتبت بالعربية على ملف المريض؛ مما يجعل المتنبي والبحتري يبكيان في قبرهما.
ولكن هذه هي مؤشرات الانحطاط كما يذكر ابن خلدون ذلك في مقدمته، عن أن المغلوب مولع بالغالب في لغته وشعاره وزيه وسائر عوائده. و(صادق خان) تربى في بريطانيا العظمى؛ فأصبح خلية في هذا الجسم الحيوي، ولم يعد فيه ما يذكر بأصوله التي خرج منها، إلى بقايا من جينات تطبعت بطبعة ريتشارد قلب الأسد. وهذا يحكي مأساة موت الأمم والمجتمعات التي تتحول إلى مواد أولية تأكلها مجتمعات قوية حية، كما نأكل نحن الخزو والمطيشة ـ بتعبير المغاربة ـ فتتحول إلى مواد بناء داخل الجسد الحي.
أذكر من المؤرخ البريطاني توينبي كيف تحدث عن قوة الإمبراطورية العثمانية، وأنها لم يكن يضيرها أن تضع في منصب الصدر الأعظم ـ وهو أعلى وظيفة في الدولة ـ يوناني أو صربي أو كرواتي، ولم يجد (سليمان القانوني) حرجا أن ينجب من الروسية (روكسالينا) خلفاء للدولة مثل سليم الثاني.
يقول توينبي على لسان سفير دولة آل هابسبورج عبارة: حسدت العثمانيين فهم يعتنون بالإنسان فيرقون ملكاته فيصل إلى أعلى رتبة، أما نحن فنعتني بالباشق والنسر والحصان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى