الرئيسيةثقافة وفن

بافل كوروتس..استثمر تجربته العسكرية في إبداعه وأنكر معتقدات أساسية من المسيحية

غدير العلي
كيف تمكن المفكر والكاتب بافل كوروتس من أن يستثمر خبرته في المجال العسكري والاستخباراتي ليوظفها بإبداع محكم في عالم الفكر والأدب؟ وكيف تمكن ذلك الرجل من بيع أكثر من 6 ملايين نسخة من كتبه؟ ما هو السر في تلك الشخصية الممتلئة بالتساؤلات والغرابة؟ إنها بطبيعة الحال شخصية غير عادية على الإطلاق. بعد أن أبحر في عمله ضابطا في البحرية والجيش لسنوات طوال، أرسى سفينته الأخيرة في مرفأ الكتابة الأدبية، فكان ذلك تحولا جذريا في مسيرة بافل كوروتس المهنية، والذي أصبح من ألمع وأهم المفكرين الرومان في الوسط الثقافي، بعد أن عمل على مدار 24 عاما ضابطا في البحرية، ثم انتقل إلى الاستخبارات العسكرية ليصبح مسؤول العلاقات الخارجية في الجيش ثم رئيسا للمخابرات.

ولد بافل كوروتس في منتصف القرن الماضي في قرية كلافشنت، التي تبعد عشرات الكيلومترات فقط عن مدينة ياش، والتي كانت وما زالت تعد من أهم المراكز السياسية والاقتصادية والثقافية في منطقة الملدوفا، فضلا عن أنها أقدم المدن الرومانية الواقعة في الجزء الشمالي الشرقي من البلاد. ففيها أسست أول مدينة جامعية في رومانيا، فيما تضم حاليا خمس مدن جامعية، كما صدرت فيها أول صحيفة رومانية وقد يكون هذا دليلا على مكانتها الثقافية آنذاك.
وسياسيا فقد كانت عاصمة لملدافيا ثم عاصمة الممالك المتحدة، وأخيرا عاصمة رومانيا في الفترة ما بين 1916 و1918، كما أطلقت عليها عدة مسميات منها عاصمة رومانيا الثقافية، مدينة الحب الكبرى، ومدينة على سبع تلال، في حين تم ترشيحها أخيرا للفوز بلقب عاصمة الثقافة الأوربية لعام 2021.
قبل أن يبصر بافل النور كان والده محاربا على الجبهة الشرقية أثناء الحرب العالمية الثانية، وحاز حينها وسام الطيران ورتبة الصليب الذهبي، في حين كانت والدته قد عرفت معنى الفقر وكيفية مواجهة وتحمل أعباء الحرب كزوجة محارب. وفي عام 1949 رزقا بمولودهما الذي اختار له والده اسم بافل. نشأ ذلك الصغير في أسرة بسيطة، ولكنها كانت صارمة في التربية وغرس الأخلاق الفاضلة والحميدة في أبنائها.
كوروتس الذي كبر أنهى دراسته الابتدائية في قريته، ثم قررت أسرته الانتقال إلى أندريشيني إحدى ضواحي مدينة ياش، وتم قبوله في المدرسة الوطنية العليا، وكان حينذاك يكسب قوت يومه من خلال العمل في أحد مصانع صناديق الفاكهة.
وفي عام 1965 كان واحدا من 400 مرشح للمدرسة العسكرية التي أنهى دراسته الثانوية فيها، وبعدها بعامين انتقل إلى مدينة كونستانسا الساحلية والمطلة على البحر الأسود، حيث تم قبوله هناك في الكلية العسكرية العليا لضباط البحرية.

فترة التحول
عمل أربعة وعشرين عاما في المجال العسكري والاستخباراتي وتقلد عدة مناصب هامة، لكنه في الوقت الراهن أصبح كاتبا مستقلا رافضا أن يكون له أي منصب سياسي ويفتخر بكونه لا ينتسب لأي حزب في الدولة، لكنه، ومن خلال ظهوره المكثف في وسائل الإعلام المرئية، يوجه باستمرار الانتقادات اللاذعة للحكومة وسياستها في إدارة شؤون البلاد، وخاصة ما يتعلق بالشأن الاقتصادي وعدم قدرتها على توظيف الموارد والثروات بالشكل الذي يخدم مصالحها.
لم ينكر كوروتس في يوم من الأيام فضل العمل في المجال العسكري عليه، وما أضاف له من ميزات لشخصيته ومهاراته الفكرية التي استثمرها في ما بعد في مجال الكتابة، فيقول: «إن عملي في المخابرات جعلني حريصا على التدقيق في كل معلومة تمر من أمامي للتأكد من صحتها، ولأكون على ثقة كبيرة بعدم الوقوع في أي لبس أو خطأ وأن أتجنب المعلومات الضبابية دائما». ويضيف: «تطورت لدي القدرة الاستيعابية على الربط بين الأحداث وتفسير ما يجري من حولي بدقة، فتعودت على الكتابة بأقل قدر ممكن من الكلمات وتقديم معلومات قيمة عميقة المعنى وبأسلوب رشيق وسهل».

البداية
تزامن انفصال الملدوفا عن الامبراطورية الحمراء، مع إنهاء بافل مهمته العسكرية ليصبح كاتبا وصحفيا، وكان هدفه أن يصبح واحدا من أهم الكتاب على الساحة الثقافية الرومانية. وهكذا بدأ بافل الكتابة في عام 1992، ولكن تجربته الأولى كانت قبل ذلك بكثير حين كتب رواية بعنوان «الألم الأرض»، وبعد عشرة أعوام قام بإحراق المخطوط الذي لم يكتب له أن يرى ضوء النهار.
تمكن بافل منذ ذلك الحين من كتابة أكثر من مائة وأربعين كتابا تنوعت مضامينها، فكتب في الإنسانية الكلاسيكية والواقعية والرومانسية والرمزية الطبيعية والحداثة التقليدية، وعلم النفس التطبيقي وأساليب التعليم الذاتي، الاقتصاد، العلوم الطبيعية، الطب، في الأديان، الخيال التأملي، أسرار العالم والتنبؤات المستقبلية، الشعر، الرواية والمقالات الصحفية.
إنتاجه الأدبي الذي حقق مبيعات وصلت لأكثر من ستة ملايين نسخة، ما قد يعني أنها وصلت لأكثر من ربع عدد الشعب الروماني، فإن هذا الرقم قد يكون مرآة تعكس حجم الشهرة الكبيرة التي اكتسبها واستحسان القراء لأسلوبه والمواظبة على قراءة كتبه، ولربما يظهر لنا أحد آثار الشيوعية الحميدة في هذه المرة في حجب وسائل الترفيه بما فيها التلفاز الذي كان حكرا على أخبار الحزب الشيوعي، مما عزز لدى الشعب الروماني حب القراءة التي كانت نافذتهم الوحيدة على الفكر والرأي الآخر، فكان الكتاب رفيقهم في رحلات القطار وفي الحافلات وفي أماكن أخرى كثيرة، ليصبح مشهدا مألوفا استمر حتى الآن.

أسرار نجاحه
يعزو كوروتس نجاحه والمكانة التي وصل إليها الآن قائلا: «ما ساعدني على النجاح أني تعلمت الانضباط الألماني والشجاعة الأمريكية والمثابرة اليابانية»، كما أن كثرة أسفاره حول العالم لم تكن كما يعتقد البعض أنها رحلات للترفيه والاستجمام ولم يقصد المساكن الفارهة، بل كانت وجهته نحو المناطق المتواضعة، فهناك كان يجد كل ما يبحث عنه من معلومات وحقائق وأدلة لتوثيقها حتى تخدم أهدافه في الكتابة.
قد يمكننا القول إنه رائد من رواد الفكر يكتنز في داخله موسوعة هائلة من المعلومات والأفكار، استطاع أن يجعل تلك الموسوعة في متناول الجميع، ولكن من أين له هذا المخزون؟

مصدر مخزونه الفكري
بافل كان لديه شغف في القراءة لكبار المفكرين الرومان والألمان والأمريكان، كونه متمكنا من تلك اللغات جميعها، فكان هدفه النبيل هو أن يقدم خلاصة تجارية ليستفيد منها أكبر قدر ممكن من القراء، ولهذا قام منذ البداية بتأسيس دار خاصة به للنشر ليتمكن من أن يكون ثمن كتبه رمزيا، لأن إحساسه الوطني القوي وشعوره بالمسؤولية كانا يدفعانه لأن يقدم كل ما يستطيع لخدمة أبناء وطنه وكل من يقيم على أرضها بغض النظر عن الأعراق والأديان لأنه يعتبر البشرية كلها تعود إلى أصل واحد، كما أنه يستنكر اضطهاد الأقليات في كل مكان من العالم.

تقديم حلول جذرية وعملية
إن من أبرز مبادراته الوطنية دعوته المستمرة للمهاجرين الرومان في أوربا والعالم، بالعودة لاستغلال ثروات وموارد وطنهم، ويقدم لهم أسرارا وطرقا يمكن تطبيقها بسهولة على أرض الواقع، فمن خلال كتبه قدم لهم مئات الحلول للاستثمار الناجح مدعمة بالأدلة والأرقام، كما أنه يقوم بأعمال تطوعية مثل المحاضرات وتزويد المكتبات الرومانية بكتب من الخارج تصب في نفس المضمون وبشكل مجاني ليحقق هدفه بشكل أفضل.
ومثالا على ذلك، فإنه يرى أن العودة إلى استغلال الأراضي الزراعية سينعش البلاد لكون رومانيا ثالث قوة في أوربا من حيث حجم الأراضي الزراعية فقدم طرقا فعالة وعملية للفلاح وغير الفلاح في إعادة ذلك الاستثمار من جديد، فضلا عن تنشيط الموارد الأخرى التي من أهمها السياحة فهو متفائل جدا في ذلك، ويقول إنه في عام 2020 ستشهد رومانيا انتعاشا اقتصاديا كبيرا، ولهذا يدعو جميع الرومان في الخارج لنقل استثماراتهم إلى الأراضي الرومانية لأن الخير الكثير سيأتي للجميع.
استطاع كوروتس أن يبني جسرا من الثقة والتواصل بينه وقرائه، فلم يعزل نفسه للتفرغ للكتابة، بل كان دائما قريبا منهم وعلى تواصل معهم من خلال برامجه التلفزيونية وغيرها. قد تكون أفكاره المستشرقة وشحناته الإيجابية التي يشحن بها قراءه سببا آخر في تقوية تلك العلاقة فيمكننا القول إنه كاتب شامل استطاع أن يجذب جميع الشرائح من الأطفال وصولا إلى السياسيين، وهذا بسبب قدرته على التنويع وتلوين أساليبه لتناسب كل فئة يستهدفها على حدة.

علاقاته الروحية
كوروتس الذي أصبح نجما لامعا على شاشات الإعلام المرئي الروماني، وأصبح قطبا من أقطاب الثقافة والفكر في رومانيا، إلا أن الأمر لا يخلو من المشاحنات. بافل الذي سار ضد التيار المسيحي الأرثوذكسي، واجه انتقادات حادة وقاسية بسبب خوضه لقضايا تتعارض مع الديانة المسيحية الأرثوذكسية التي تنتمي إليها الأغلبية العظمى في البلاد. فهو ينكر معتقدات أساسية لديهم ذكرت في الإنجيل حول المسيح ومعجزاته ومكانته، وبأن الصليب لا علاقة له بالمسيحية وليس رمزا لها كما هاجم سلوكيات رجال الدين المسيحيين وطقوسهم، ويشرح وجهة نظره قائلا: «لا أومن بما جاء في الكتب، ولكني أومن فقط بأن الله هو القوي الجبار المهيمن على الكون المتواجد في كل مكان وزمان».

الطاقات الجبارة
بسبب غزارة إنتاجه ومحصوله الأدبي فلا يسعنا التطرق لجميع أعماله، ولذلك سنستعرض مجموعة من كتبه نبدؤها من سلسلته «فن النجاح»، ومنها كتاب «سلم النجاح» الذي بيعت منه نصف مليون نسخة، وكتاب «أسرار العمر الذهبي» الذي كشف طرقا لنكون شبابا سعداء من عمر الـ 20 ولغاية الـ 90، قدم فيه أدلة وحججا من علم الوراثة وطب الأعصاب والطب النفسي والعلوم الأخرى، وكتاب «كيف تكون ثروتك» والذي يقدم مئات الطرق والحلول لتكوين الثروات، ولديه سلسلة بعنوان المثمنة مكونة من 100 كتاب، ومنها «أسرار المستكشفين» «دموية الأرض» و»حرب في السماء».
وحتى الأطفال كان لهم أيضا نصيب لا بأس به من أعماله، فكتب لهم العديد من الكتب منها «خارطة النجاح»، وكتب في «الروايات التاريخية» وكتبا مخصصة في «أناشيد الأطفال»، وقام بتحليل بعض الأساطير الدينية والمعتقدات في كتاب «الأسرار الكبرى» «العقاب الإلهي ليس بالأسلحة» وغيرها. ومن كتبه الهامة «مصير أوروبا» وفي الأدب الخيالي كتب «أشباح الإمبراطوريات» وله روايات عديدة منها «جوري الصحراء». وفي الموسيقى قدم بعض المقطوعات المستوحاة من الموسيقار دانييل أفرام ونتج عن هذا التعاون ثلاثة ألبومات منها «القلب الروماني» و«أغاني من الكريات» وفي الرومانسية كتب «قبلة من نار» و«الحب والسم» و«قصة حب بحار». وكتب بعض القصائد التي كانت أبياتها مستوحاة من مشاعره الكامنة في فترة المراهقة ليثبت جدارته في تأليف الشعر أيضا. وبالرغم من هذا الإنتاج الضخم وبيع ملايين النسخ، فإن كوروتس غير راض عما وصل إليه حتى الآن فيقول: «إن عدد القراء الذين وصلت إليهم كتبي، وخاصة سلسلة «فن النجاح» قليل مقارنة بالحشود الذين هم بحاجة إلى التعرف إلى النجاح».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى