الرأي

جدل بيزنطي

سعيد الباز
إن نظرة بسيطة على فضاءاتنا العامة، تمكننا من رؤية العديد من الناس مستغرقين في تصفح هواتفهم الذكية، أبصارهم مشدودة إلى شاشاتهم، وملامحهم تتغير كلما تأثروا بما هم منشغلون فرحا وغبطة أو أسى وحزنا. لقد صار هذا المنظر مألوفا وما عاد يثير الاستغراب، بل وقع تطبيع كامل مع هذه الممارسة إلى حد أصبح فيه التواصل الإنساني شبه معدوم. إن انزياحنا التدريجي من عالمنا الواقعي إلى الافتراضي لم يدع لنا فرصة التفكير في ما سنفتقده من وجودنا الواقعي وما سنجنيه من وجودنا الافتراضي مقابل أن تتغير بوصلة حياتنا كلية ونصبح سجناء، بلا أمل في السراح، للشبكة العنكبوتية بكل خيوطها المنسوجة بإحكام عبر مواقع تواصلها ومنصاتها الرقمية. هل يمكن لنا أن نفترض على سبيل الخيال العلمي الصرف، أن تتعطل يوما ما هذه الشبكة، وهل سيكون الأمر شبيها بانقطاع التيار الكهربائي حيث يكتشف الإنسان وجها آخر للوجود والحياة، ومنظرا آخر لليل وللكائنات المحيطة بنا، أم سيحدث له ما يحدث للمدمنين من توتر في الأعصاب والدخول في نوبة اكتئاب. إن الانغماس الكلي في هذا الطوفان الرقمي الهادر لن يقودنا فقط، إلى أن نكون كائنات شاحبة مستلبة الوعي، بل مستلبة في وجودها برمته.
الدليل على ذلك أن ظواهر جديدة بدأت تأخذ حجما مقلقا، حيث يتبادل مرتادو مواقع التواصل الاجتماعي العديد من الفيديوهات لنجوم هذه المرحلة، أصحاب ما أصبح يسمى «الطوندونس» في غاية البذاءة والتفاهة، وتلاقي الكثير من الإعجاب، بل يصر البعض منهم على إرسالها إليك عنوة ودون رغبة منك. فإذا واجهته بالرفض أو الاستهجان نظر في وجهك نظرة استغراب، ولن يتورع عن وصفك بالمتخلف أو يشكك في انتمائك إلى العصر. بالإضافة إلى ذلك، نجد في هذه المواقع حجما هائلا من التعليقات التي تظهر المستوى الفكري الذي آل إليه الاستعمال العشوائي غير الخاضع لأي ضوابط لغوية أو منطقية، حيث من الممكن جدا أن يتحول بسرعة البرق إلى سجال عقيم يغرق في تفاصيل جزئية أو تافهة، تلك التفاصيل التي اعتبرها المثل الإنجليزي المكان المفضل للشيطان. إن الوفرة الزائدة في المعلومات التي تميز العالم الافتراضي لن يسقطنا ضحية للتضليل، بل سيغرقنا حتما في شكل جديد من الأمية يستحق أن نسميه بالأمية الجديدة على المستوى الفكري واللغوي. ذلك أن اللغة هي أكبر ضحية في العالم الرقمي الافتراضي، إذ لم يعد للكلمات أي معنى في ذاتها بعد أن فقدت بنيتها اللغوية فقد صار العالم يكتب اليوم بالصور… صور متلاحقة بوفرة زائدة عن الحد، ذات طبيعة هشة وعائمة محكوم عليها بالزوال.
اللافت للنظر أيضا أن المتابعة للمساجلات ذات الطبيعة «الفكرية» تبرز نوعا من الجدل الذي يسمى جدلا بيزنطيا، هذا الجدل العقيم الذي كان في البداية سببا في انقسام الديانة المسيحية إلى مذهبين الكاثوليكية غربا تحت ظل الإمبراطورية الرومانية والأرثوذكسية بزعامة الإمبراطورية البيزنطية حول مسألة لاهوتية تخص طبيعة المسيح. ويبدو أن للبيزنطيين ولعا شديدا بهذا الجدل حيث عادوا إليه في فترة انحطاطهم ومحاصرة العثمانيين لعاصمتهم القسطنطينية. كان جدلهم تافها ينصب على قضايا مثل جنس الملائكة هل هم من الذكور أم الإناث، وما هو حجم إبليس هل هو كبير بحيث لا يسعه أي مكان، أم هو صغير بحيث يمكنه العبور من ثقب إبرة…؟
كان هذا النقاش متواصلا في مجلس الشيوخ والكنائس والمنتديات العامة وبين أفراد الشعب… فيما مدافع السلطان العثماني محمد الفاتح تدك أسوار القسطنطينية، لتصبح منذ ذلك التاريخ الجزء الأوروبي من مدينة إسطانبول. فهل نحن في النهاية محكومون بهذه الحتمية التي قال عنها الشاعر راينر ماريا رايلكه: «هذا العالم/ نشيده فينهار/ ثم نشيده ثانية/ فننهار نحن».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى