الرأي

جذور كونتا كنتي.. باقية وتتمدد

الأرجح أنّ الكاتب الأفرو ـ أمريكي أليكس هايلي (1921 ـ 1992)، لم يكن يعرف أنّ «جذور»، عمله الثاني بعد 12 سنة مرّت على كتابه الأول في سيرة مالكولم إكس، سوف يصبح ظاهرة اجتماعية وثقافية وسياسية، وينتقل تأثيره من الصفحة المطبوعة والكتاب الأكثر مبيعاً، إلى الشاشة الفضية والمسلسل الذي شاهده مئات الملايين، داخل الولايات المتحدة وخارجها. وقبل أيام، أعلنت شرطة سافانا، المدينة الأقدم في ولاية جورجيا، أنّ عبارات عنصرية كُتبت على شاهدة قبر كوين هايلي، جدّة المؤلف، انتقاماً منه بالطبع. وقبل هذه الواقعة بأسابيع قليلة، أعلنت «قناة التاريخ» أنها بصدد إعادة إنتاج مسلسل «جذور»، مع إضافة عناصر جديدة توصلت إليها أبحاث لاحقة؛ مع إدخال شخصية هايلي نفسه، حيث أُسند الدور إلى الممثل الشهير لورانس فيشبرن.
وكانت تفاصيل حياة مالكولم إكس، خاصة طمس هوية السود الإنسانية، وراء انطلاق فكرة «جذور»، وابتداء مرحلة شاقة من الساعات الطوال التي قضاها هايلي وهو يصغي إلى ذكريات أهله عن «الأفريقي»، جدّهم الذي كان يرفض أن يُنادى باسم العبودية «توبي»، ويصرّ على اسمه الأصلي: كونتا كنتي. استولى احتمال المحتد الأفريقي على مخيلة هايلي، فانخرط في بحث محموم وتنقيب يومي في دائرة الأحوال الشخصية المركزية، ثمّ قام بزيارات متعددة للبعثات الأفريقية في الأمم المتحدة للسؤال عن أصول سلسلة طويلة من الأسماء والمفردات المبتدئة بحرف K، والتي اعتاد جدّه كونتا كنتي استخدامها. ولقد اهتدى إلى عالم ألسنيات بلجيكي تعرّف على هذا المعجم: إنها لغة تدعى «ماندينكا»، وهي منتشرة في بعض أرجاء غامبيا.
الخطوة التالية كانت إقناع مجلة «ريدرز دايجست» بتقديم منحة شهرية مقدارها 300 دولار أمريكي لتمويل مشروع البحث عن الجذور هذا. وبالفعل، في عام 1966 سافر هايلي إلى غامبيا، وبلغ قرية جوري، والتقى بالراوي العجوز كيبا كانجي فوخانا، الذي سرد له حكاية الفتى كونتا كنتي، وكيف غادر القرية للاحتطاب في الغابة، قبل مئات السنين، ثمّ انقطعت أخباره نهائياً. الجهد الأكثر صعوبة سيبدأ الآن، ولسوف يستغرق عشر سنوات أخرى من البحث واللقاءات والتوثيق والكتابة، و… إعمال المخيلة أيضاً، وأولاً. وفي أواخر 1976 صدرت «جذور» لتروي حكاية كونتا كنتي، ذلك الجدّ الذي تردد اسمه مراراً في ذكريات الأحفاد: وقوعه في الأسر، استعباده، عذاباته في «العالم الجديد»، ورفضه الدائم للعادات التي أجبره سيده على تعلمها، وحنينه الأبدي إلى تراثه الأفريقي.
وكان الجهد التأليفي الذي ألقاه هايلي على عاتقه أشبه بإعادة بناء ديناصور من كومة عظام، حسب عبارة بول زمرمان. وبعد سنتين على صدورها، حصدت الرواية 271 جائزة، بينها بولتزر، وطبعت منها 8,5 مليون نسخة، وترجمت إلى 26 لغة، وتقرر تدريسها في مناهج 260 كلية جامعية، وصدرت منها طبعة مبسطة خاصة بالأطفال، قبل أن تطلقها قناة ABC في مسلسل تلفزيوني من ثماني حلقات (تألق فيه الممثل الشاب لوفا برتون بدور كونتا كنتي)، تابعه 136 مليون مشاهد أمريكي، وعرض على شاشات العالم بأسره. لماذا، سؤال يُطرح تلقائياً، تحول العمل، روايةً ومسلسلاً، إلى ظاهرة أدبية شعبية فريدة، خلال فترة قياسية قصيرة؟ ولماذا تماهى السود معه بدرجات ومعايير متباينة، لكنها تنتهي جميعها إلى مسألة الهوية والتراث والتاريخ والثقافة؟ ولماذا لم يكفّ عن استثارة ردود الأفعال، حول ظواهر أمريكية كبرى وصغرى، تبدأ من اغتيال كنيدي، وتمرّ بانتخاب أوّل رئيس أسود، ولا تنتهي عند تدنيس شاهدة قبر كوين هايلي؟
من الإنصاف الابتداء بالقول إنّ العمل صار، في يقين الأفرو – أمريكيين على الأقلّ، نظير «ذهب مع الريح»، الرواية والشريط السينمائي الشهير، مع جرعة أعلى من وضع العبودية في سياقاتها التاريخية الملموسة، وتثمين أصدق لمعاناة العبيد. أيضاً، تحت السطح التاريخي لوقائع «جذور» وحكاياتها، كان ثمة توثيق اجتماعي وثقافي واقتصادي وأنثروبولوجي فريد من نوعه، قائم على بحث مكثف عن الحقيقة، وتوق جامح إلى نبش جذور الهوية. أخيراً، فرادة ذلك التوثيق، في بُعده الأدبي المحض هذه المرّة، أنه مزج بين الواقعة الفعلية والخيال الطلق، وما عجز هايلي عن تعلّمه من الرواة والتاريخ الشفوي والترحال والتنقيب في الوثائق واستجواب الأشخاص، أكملته مخيّلته الحيّة الجسورة. كلّ هذا، رغم أنّ العمل ليس أعجوبة أدبية، ونقاط ضعفه عديدة، وثمة إفراط في افتعال أجواء التشويق والرعب والتهويل، وضعف في تحليل خطوط تطوّر الشخصيات، وبساطة – تبلغ حدّ السذاجة، أحياناً – في توظيف المادة الشعائرية والفولكلورية.
ومع ذلك، كــان أبرز أسباب جاذبــــية العمــــل أنّ جــذور كونتا كنتي ما انفكت تضرب، عميقاً، في أرض عالية الخصوبة؛ فلم تكن باقية، فقط، بل هي أيضاً… تتمدد!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى