شوف تشوف

جيل مدبلج

شاء القدر أن يتسبب حميد شباط في غضب امحمد بوستة بسبب إصرار الأمين العام المسلط على حزب الاستقلال على الرد على الخارجية ببلاغ للحزب في أزمة موريتانيا، فخرج بوستة في تلك الليلة الصقيعية بعد مغادرة شباط لبيته إلى الحديقة ليصرف توتره وغضبه فأصيب بنزلة برد حادة عجلت بوفاته رحمه الله.
وشاء القدر أن يحضر حسن الجندي جنازة امحمد بوستة في مراكش، فأصيب خلالها الفنان الكبير بدوره بنزلة برد حادة لم تمهله أكثر من أسبوع فأودت بحياته.
ولقد عرف الجيل الذي أنتمي إليه الفنان حسن الجندي، الذي غادرنا رحمه الله نهاية الأسبوع الماضي، كصوت إذاعي في مسلسل الأزلية الذي كانت تذيعه «الرباط» ذات زمن قبل أن يجتاح الأثير هذا المد العاتي من السخافة وقلة الذوق الذي تنشره المحطات الإذاعية التي تحول بعض أصحابها من مسجلي كاسيط الشيخات إلى مدراء محطات.
كان الزمن زمن حكايات مسلسلات «نهار الخميس»، و«الأزلية»، ومسلسلات فرقة المعمورة.
كان صوت الجندي قوي النبرات، يجعلنا نعيش أجواء الأزلية، قبل أن ننتقل معه إلى الشاشة في المسلسلات التاريخية، كـ«الرسالة»، و«طبول النار»، و«القادسية»، و«ظل الفرعون»، و«صقر قريش»، و«آخر الفرسان»، التي كنا نتعلم منها مبادئ اللغة العربية والنطق السليم والنخوة والمروءة والشجاعة، قبل أن تهجم المسلسلات المدبلجة وتقلب في أذهان المغاربة هذه المبادئ والأفكار رأسا على عقب.
نحن جيل كبر مع مسلسلات تاريخية انتصرت في مضامينها لسير القادة الكبار، والشعراء الأفذاذ، والفوارس النبلاء، «محمد يا رسول الله»، «المتنبي» وغيرها.
وحتى الرسوم المتحركة كانت تقدم قصصا واقعية الشر فيها واضح والخير واضح، سواء بالعربية أو الفرنسية، «سندباد»، رائعة مارك توين «طوم سويور»، «بيل وسيباستيان»، «جزيرة الكنز»، فنشأ جيل يتحكم على الأقل في المبادئ الأساسية للغتين.
اليوم لدينا جيل مدبلج، يكتب الدارجة بالحروف اللاتينية ولا يجيد أية لغة، يتابع مسلسلات مكسيكية مدبلجة إلى الدارجة، وكبر على مشاهدة رسوم متحركة عنيفة أبطالها كائنات غرائبية الشكل لديها «فراقش» وقرون يقدمونها له ككائنات ترمز للخير وتعين أبطال قصص الرسوم المتحركة.
وفي الأخير يتساءلون لماذا أصبح لديهم مراهقون في الخامسة عشرة من عمرهم يحملون السيوف ويقطعون الطرق، فماذا كنتم تنتظرون أن يخرج لكم من وراء كل تلك المسلسلات والإنتاجات التلفزيونية الرديئة التي حشوتم بها أدمغة هؤلاء المراهقين عندما كانوا أطفالا.
لذلك فنحن أمام جيل كامل مدبلج، جيل لم يلحس طابع البريد بلسانه لكي يبلله بلعابه قبل أن يلصقه فوق ظرف الرسالة البريدية، فأبناء اليوم يتراسلون بواسطة البريد الإلكتروني و«الوات ساب» و«الأنستغرام» وما إلى ذلك من وسائل الاتصال الحديثة.
جيل لم يحمل «وصلة» خبز الجارة التي تتركها أمام الباب مرتاحة إلى أن يمر ولد لحلال ويحملها فوق رأسه إلى فران الحومة.
جيل لم تضع الجارة فوق جرح غائر في رأسه التحميرة لأن ابنها شجه بحجر طائش، ولم ير كيف كانت الشجارات بين الجيران تنتهي بتبادل طباصل الحلوى وكأن شيئا لم يكن.
نحن أمام جيل كامل لم يجرب في يوم من الأيام أن يدخل «ستيلو بيك» في إحدى دوائر «الكاسيطة» لكي يعيد الشريط الموسيقي إلى الخلف لأن زر «السجالة» معطل، جيل يحشو أذنيه بـ «الليزيات» ويهيم على وجهه في الشوارع مثل الأرواح التائهة في أغنية «تريلر» لمايكل جاكسون.
نحن أمام جيل كامل لم يجرب يوما البحث عن الموجة في مذياع وهو يلصقه على أذنه، ولم يجرب طعم الكاربون الأسود في فمه عندما يعض إحدى بطاريات الراديو الميتة بحثا عن بعض الطاقة فيها، أو جعلها في كاصرونة ووضعها فوق النار طمعا في بعث الحياة فيها من جديد.
هي أشياء ضاعت مع التقدم التكنولوجي الحديث، عشنا حلاوتها ومرارتها نحن جيل السبعينات والثمانينات وتركت في قلوبنا آثارا لن تمحى.
الآن لم يعد أبناء اليوم يحتاجون سعاة البريد كما كنا نحن نحتاجهم، فهم منشغلون بكتابة الرسائل الهاتفية القصيرة المليئة بالأخطاء، عوض كتابة واحدة من تلك الرسائل التي كنا نقضي أياما في مراجعتها وانتقاء كلماتها والرسومات التي سترافقها.
في تلك المراهقة البعيدة كان الجميع يبحث عن ربط علاقات صداقة وتعارف بالمراسلة، وليس مثل اليوم حيث حرم البريد الإلكتروني والواتساب، برسائله السخيفة التي تدعوك إلى قراءتها وعدم تفويت أجر إرسالها إلى مائة من معارفك وإلا سيعذبك الله عذابا شديدا مع تهديد ينبهك بأنك إذا لم تفعل فاعلم أن الشيطان قد منعك، أجيال اليوم من متعة الجلوس إلى الطاولة أمام ورقة بيضاء أو بطاقة سياحية عن مدينتنا لكتابة رسالة بعبارات مختارة بعناية.
هل لاحظتم كيف أن البطاقات السياحية للمدن المغربية انقرضت بدورها من المكتبات؟
في السابق كانت المكتبات تعرض بطاقات للمسبح البلدي الذي «تشلبطنا» طويلا في مياه مسبحه الصغير الخاص بالأطفال والمخلوطة بالكلور والبول، وبطاقات حول الحديقة العمومية حيث كانت مواعدنا الغرامية الأولى، ومقر العمالة الذي اعتصمنا أمامه لسنة من أجل الشغل، والشارع الرئيسي الوحيد بالمدينة الذي كنا نذرعه جيئة وذهابا طيلة ليالي الصيف الحارة، لنعرض أذرعنا المحمرة نهارا تحت شمس غشت فوق رمال شاطئ.
أما اليوم فيستحيل أن تعثر على بطاقات أخرى في المكتبات غير بطاقات تعبئة الهاتف الجوال.
في تلك الثمانينيات كان الحصول على أصدقاء عبر المراسلة صعبا ومكلفا، وليس مثل اليوم حيث يستطيع أي مراهق بنقرة واحدة على زر حاسوبه الشخصي، أن يعثر على آلاف الأصدقاء الافتراضيين الذين يسكنون في الشبكة طيلة اليوم والليلة.
لذلك كان يجب البحث عن ركن التعارف في صفحات المجلات والجرائد، وقضاء وقت طويل في التربص بالبرامج الإذاعية التي تذيع عبر الهواء عناوين وأسماء الراغبين في التعارف في ما بينهم.
في السابق كانت الجارات يطلبن منا نحن الأطفال المتعلمين كتابة رسائل لأزواجهن وأقربائهن البعيدين، واليوم تجلس الأمهات والآباء أمام «السكايب» للتحدث مع أبنائهم في كندا وأوربا بالصورة والصوت عبر «الكاسك». كانت عناويننا عبارة عن دكاكين الحومة واليوم لكل منا عناوينه الخاصة على «الجيمايل» و«الفيسبوك» كنا نلتقي أصدقاءنا بعد سنوات من المراسلة، والآن يلتقي أبناء اليوم بأصدقائهم عبر «السكايب» كل ليلة.
كنا نوفر مصروف الجيب لكي نشتري طوابع البريد والأظرفة، والآن صار أبناء اليوم يوفرون مصروف الجيب لشراء بطاقات التعبئة لهواتفهم النقالة وشراء ساعة من الوقت للجلوس أمام شاشة خرساء وجامدة لكي يتحدثوا مع غرباء لن يلتقوا بهم أبدا ربما.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى