الرأي

حتى لا تموت المدرسة العمومية..

بلمختار، وزير التعليم ما قبل العالي، مدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى الاسترخاء قليلا لمشاهدة فيلم وثائقي عن المدرسة العمومية، وباللغة الفرنسية التي يُحبّها.
ليس عليه أن يبحث مثلا عن مترجم ليترجم له كل شيء إلى الفرنسية ما دام الفيلم الوثائقي من إنجاز صحفي فرنسي. «ما فيها باس»، أن يقف سي بلمختار عند مشاكل التعليم العمومي المغربي، حتى لو نقلها له شريط أجنبي.
التلميذ المغربي أسوأ حالا من أغلب تلاميذ الكرة الأرضية، ويقضي ساعات طويلة للالتحاق بالمدرسة من أجل التحصيل داخل قاعات دراسية لا تصلح أحيانا حتى لتخزين الحبوب أو السلع المهربة منتهية الصلاحية. ورجل التعليم المسكين يضطر إلى توديع الحضارة والتنقل مستعملا كل وسائل النقل الميكانيكية والحيوانية، التي تخطر ولا تخطر على بال.
في الفيلم، بدا أن التلميذة التي تم اختيارها من المغرب رفقة اثنتين من صديقاتها اللواتي يقطنّ بالدوار نفسه، أسوأ حظا من تلميذ الأرجنتين وأخته. ففي الأرجنتين تخصص العائلات أجود أنواع الخيول لتصبح وسائل نقل لأبنائها حتى يصلوا إلى المدارس بعد قطع كيلومترات من الأراضي الفلاحية.
بينما في إحدى الدول الإفريقية، يضطر الطفل وأخته، وكلاهما دون العاشرة، إلى المشي أربع ساعات قبل الوصول إلى المدرسة، تبدأ الرحلة في الخامسة صباحا، أي قبل طلوع الشمس، ويضطر الأخوان إلى حمل براميل صغيرة من الماء اتقاء للحرارة المفرطة التي تشتد منذ الساعات الأولى للصباح. ويصادفان في طريقهما الأفيال والنمور، ويكون عليهما أن يختبئا حتى لا يعرضا حياتيهما للخطر، وفي الأخير يصلان إلى القسم ليجدا المعلم المسكين بانتظارهما، ويقدم لهما التهاني لوصولهما سالمين.
في المغرب تضطر فتاة تراجع دروسها فوق مائدة الأكل، على سطح المنزل الطيني، إلى مرافقة صديقتيها صباح كل اثنين، ليقطعا ما يناهز العشرين كيلومترا، حتى يصلا إلى أقرب مدرسة.
يُظهر الشريط كيف أن الحظ وحده، يشمر عن ساعديه ويتدخل لحماية بنات في عمر الزهور من التعرض لكل المخاطر التي قد تأتي بها طرقات المملكة.. كل هذا في سبيل الوصول إلى المدرسة العمومية. بعد حصة طويلة من المشي، رافقتهن الكاميرا خلالها، يتوقفن للاستراحة، وخلع أحذية البلاستيك التي تحفر ذكرياتها في الأرجل الطرية لأبناء ملايين المغاربة ولا تزال. وتستمر رحلة المشي الطويلة إلى أن تمر بجانبهن شاحنة صغيرة لنقل البضائع، وبعد أن يطلبن من السائق، الذي بدا وكأنه متعايش تماما مع منظر الفتيات الصغيرات اللواتي يمارسن الدراسة بعد الماراطون، أن يقلهن معه إلى أقرب نقطة للحياة، بعيدا عن تلك الجبال.. لا يكلف نفسه عناء الرد وينطلق مخلفا الكثير من الدخان في وجه فتيات يملكن إصرارا غريبا على مواصلة الدراسة.
لا يمكن التنبؤ أبدا بمستقبل فتيات صغيرات ظهرن في شريط من خمسين دقيقة يراجعن سورا من القرآن الكريم، ودروسا ومحفوظات كلها باللغة العربية، في وقت يتباهى فيه الذين يرسلون أبناءهم للدراسة في المدارس الخصوصية بكون الفرنسية هي الحل، ويعدون أبناءهم لخلافتهم على رأس مؤسسات الدولة.
في يوليوز تُغلق المدارس العمومية، وتتآكل الحكم والأمثال المكتوبة بالصباغة والدوليو، ورسومات «ماوكلي» و«ميكي ماوس»، على جدران بنايات أخرجت إلى المغرب أطره التي فرت إلى فضاء أرحب حتى تمارس لعبة الحياة بكثير من الكرامة، بدل المهانة التي يسددها مسؤولو هذه البلاد إلى قلوبهم كالرصاص.
متى سيعود إلى المدرسة العمومية بريقها على كل حال؟ وتعاد لها بعض الهيبة التي رافقت أجيالا مديدة من الذين تخرجوا من مدارس الدولة، وأصبحوا أناسا ناجحين في الحياة؟
سيكون على بلمختار، عندما ينتهي من مشاهدة الشريط، أن يعيد ترتيب أوراق وزارة التربية الوطنية، ويتأمل مشهدا غريبا لأجيال قادمة، لا تزال تقطع طرقات بين الجبال في سبيل قراءة مقررات بئيسة فوق طاولات مقلوبة، دون أن يفارقهم الحلم القديم في أن يصبحوا مهندسين وأطباء وطيارين.. حتى يتأملوا منظر طرقات وعرة قطعوها لسنوات، من أعلى.. في بلاد لا تختلف أوضاع تلاميذ الفقراء فيها عن وضع أبناء أدغال إفريقيا، حيث السباع والضباع، أكثر من «الخطافة» على الطريق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى