الرئيسية

حروب تهريب النقود المغربية واختفائها من الأسواق

«لماذا تقول التقارير الحالية إن المغاربة عاجزون تماما عن الادخار؟ ولماذا أيضا تشير إحصائيات تقف وراءها مؤسسات دولية إلى أن نسبة المغاربة الذين يتوفرون على حسابات بنكية تبقى ضئيلة مقارنة مع إجمالي السكان في المغرب.
السبب أن المغاربة يتصالحون مع أصولهم القديمة التي كانت دائما على علاقة سيئة ومتوترة مع صوت النقود المعدنية ورائحة أوراقها. هي حرب ضاربة في القدم بين المغربي.. والمال».
المغاربة عاجزون تماما عن الادخار، وهذا يعني أن علاقتهم بالمال سيئة جدا. لكن بالعودة إلى الأزمات السابقة التي مر منها المغرب، نجد أن علاقة المغاربة بالمال كانت سيئة دائما، وعلاقة التنافر بين المغربي وجيبه ليست وليدة اليوم على كل حال.
لنعد مثلا إلى أيام كان فيها المال مجرد عملة احتياطية في التعاملات اليومية للمغاربة، سنجد أن قيمة المال كانت لها أدوار أخرى، كالنفوذ الاقتصادي والسياسي، ولم يكن التوفر على المال مطلبا للعيش بقدر ما كان ترفا لا يتوفر عليه إلا النافذون.
في بحث جامعي يعود إلى سنة 1979 عن أدوار العملة المغربية في صناعة الاقتصاد الوطني في السنوات الأخيرة التي سبقت مرحلة 1900 حيث تغلغل الأجانب في المغرب، تأتي بعض الشهادات الشفهية التي تركها بعض المغاربة المعمرين وقتها، ممن كانوا محظوظين بالعيش في السنوات الحالكة من تاريخ المغرب، وأمدّ الله أعمارهم ليعيشوا تحولات السبعينات والثمانينات ليرووا شهادة نادرة على تاريخ المال والعملة. في إحدى الشهادات البالغة الأهمية جاء ما يلي: «قالوا لنا إن دار القاضي تحترق، وأن الباشا الكبير غاضب عليه وأرسل إليه رجاله ليهدموا داره الكبيرة فوق رأسه هو وأبناؤه. عندما تناهى إلينا الخبر في القبيلة كان صاحب الدار قد فر إلى الجبال رفقة عائلته، وترك كل شيء خلفه، لم يحمل معه غير كتبه لأن الرجال وجدوا الغرفة التي يمارس فيها القضاء خالية تماما. عندما أضرموا النيران في المنزل الكبير، وأحرقوا كل شيء، بعد أن سرق بعضهم الفراش الثمين والأثاث، سارع بعض الرجال من أبناء القرية إلى الدور العلوي لكسر الباب الخشبي ونهب مدخرات الرجل وأشيائه الثمينة لكنهم لم يجدوا أي شيء، وفيما بعد علمنا أن الباشا بنفسه قام بجميع الاحتياطات، وأرسل بعض رجاله على ظهر البغال ليحملوا كل ما يستطيعون حمله من الأشياء الثمينة قبل أن يرحل صاحب الدار، وهكذا طوقوا منزله قبل فراره بيوم واحد، وهددوه بالقتل إن لم يفصح لهم عن المكان الذي يخبئ فيه أمواله. وكانت المفاجأة كبيرة لأنهم حملوا أكياس كثيرة كانت مضروبة عن آخرها بالنقود الحسنية، بعدما كان هذا الرجل يدعي الفقر والنزاهة، والحقيقة أنه كان يحصل على أموال طائلة من الناس من خلاله منصبه في القضاء. اضطرت البغال إلى العودة مرة أخرى لحمل الحمولة الثانية من أكياس المال التي كان يراكمها هذا القاضي، وصودرت منه الأراضي. لقد أمضى أزيد من ثلاثين سنة في القضاء، وكان يراكم الأموال دون أن يصرف منها شيئا لأنه كان يحصل على كل احتياجاته ومتطلباته مجانا».
هذه الشهادة التوثيقية تعكس إلى أي حد كانت الأموال تكدس في المغرب، خصوصا وأن شهادات كثيرة من هذا القبيل تلتقي كلها في نقطة جمع العملة المغربية في أكياس وكنزها، دون مداولتها في الأسواق وبالتالي لم تكن الدولة تستفيد منها أي شيء.
هنا شهادة لأحد الصحفيين الإنجليز، يروي فيها كيف أنه كان مضطرا دائما إلى دفع المال وكيف أن المنظومة المالية للمغرب كانت مخرومة، خصوصا في سنوات الصراع بين أبناء الحسن الأول حول الحكم: «لم أكن أفهم بعض الأمور في رسائل رجال المخزن. حيث كانوا يستعينون بعبارات من عمق الدين ويصدرون أوامر غير منطقية للذين يعملون تحت إمرتهم. مرة تحدث أحدهم عن فراغ المخزن من المال، وأجابه الآخر في رسالة بأن الله وحده سيملأ المخزن بالبركة. المعجزة وحدها كفيلة بسد الفراغ الذي تركه الوزراء الجشعون والمخازنية الفاسدون في الخزينة.
ولكي تجري حوارا أو مقابلة مع أحد رجال المخزن، فيجب أن تتوفر على خزائن من الصبر. الأشخاص المهمون محاطون بعدد كبير من المخازنية والكتاب والرسل، ولكي تخترق هذه الدائرة التي يحيط بها المسؤولون أنفسهم، فيجب أن تدفع رشاوى لكي تقابل الرجل السامي. أغلبهم فقراء، ويأخذون أجورهم سنويا، وبالتالي فإن رؤساءهم يشجعونهم بهذه الطريقة على أخذ الرشاوى حتى يتدبروا معيشتهم الشهرية إلى أن يحين موعد الأجرة السنوي.
عندما تمتنع عن أداء رشوة لمخزني فإنه يقول لك: «إن سيدي في الحمام. هل ستأتي لرؤيته لاحقا؟». وفي المرة المقبلة يخبرك بأن سيده «نائم»، وهكذا دواليك إلى أن ينفذ صبرك. انطلاقا من حراس الباب البراني إلى الأبواب الداخلية، يجب أن تمنح رشاوى كي تبلغ هدفك، وكلما اقتربت من الهدف تزداد قيمة الرشوة.
الأوربيون مجبرون على أداء رسوم مضاعفة، والحراس يبذلون قصارى جهدهم ليشعروا الأوربيين أنهم أقل قدرا».
لكم أن تتخيلوا مثلا، مقدار الأموال الطائلة التي ضاع على المغرب الاستفادة منها في عز الأزمة الاقتصادية التي عصفت بتاريخ البلاد في واحدة من أحلك الفترات التاريخية التي مررنا بها كمغاربة، ما دام تدبير الأمور المالية قد جرى بهذه الطريقة التي ذكرت في أكثر من مصدر تاريخي، تختلف فيه المصادر لكنها تلتقي في التفاصيل. جاء في نفس الشهادة أيضا ما يفيد أن الأموال كانت تكدس بفعل الأزمات السياسية تمهيدا لتهريبها خارج المغرب، حيث أقام أغلب الذين خسروا حروبهم السياسية وانتقل الحكم إلى غيرهم: « توجهنا إلى مكان آخر عبر بوابة تفضي إلى محل واسع، كان يعج بالأشياء المستعملة وقطع الخشب التي كان يطلبها المولى عبد العزيز، كانت الفوضى تعم المكان.
آلات بيانو، فوانيس، دراجات هوائية، الحاكي، آلات تصوير، آلات تطلق البخار، وكرات ضخمة، وسيوف، وأدوات للزينة والكثير من العصي.. أشياء كثيرة تمتد إلى ما لا نهاية.
في المكان تتناثر بعض الحقائب الصغيرة المحملة بالجواهر والأحجار الكريمة، وفوقها الكثير من المال. كانت تجمع كي ينقلها مولاي عبد العزيز معه إلى أوروبا. في الزاوية كانت هناك حقائب مملوءة عن آخرها بالياقوت. إنه مكان تملؤه عائدات المغرب».
هذا الواقع يعكس إلى أي حد كانت الثروات المالية بالمغرب كنزا يتم إخفاؤه وليس ثروة يتم تداولها في الأسواق لتنمية المبادلات التجارية أو تعزيز الاقتصاد الوطني.
إذا كانت العملة المغربية تحتوي على نجمة سداسية كبيرة، فإن مرد الأمر إلى تغلغل اليهود المغاربة في الاقتصاد الوطني، وسنجد في هذا الملف كيف أن بعضهم فروا إلى أمريكا وأوربا لتأسيس حياة مالية جديدة بعد أن تهربوا من دفع ضرائبهم للدولة، وهو ما أصاب الاقتصاد المغربي بالشلل التام خصوصا سنة 1918. قصة العملة المغربية تستحق أن تروى، لأنها تقاطعات محفوفة بالمخاطر.

علاقة المغاربة بالنقود.. الشر الذي سحق الفقراء والفلاحين
لم تكن علاقة المغاربة بالمال جيدة عبر التاريخ. هذه هي الخلاصة التي يمكن أن تخرج بها وأنت تطالع بعض المقالات والكتابات والمذكرات التي تحدثت عن أولى علامات تأهيل المغرب ليتعامل وفق المعايير الأوربية، في المجال الاقتصادي.
صحيح أن عملية ضرب العملة في المغرب وإصدار النقود لم تكن حديثة، وأنها جرت في فترات مبكرة من تاريخ المغرب، لكنها كانت عمليات «خجولة» ومحدودة، ولم يكن المال وقتها في متناول الجميع، وإنما كان ضرب النقود نوعا من أنواع التنويع الاقتصادي، استفاد منه التجار والنافذون، فيما بقي الفقراء، الذين شكلوا ولا يزالون، القاعدة الواسعة جدا من مجموع السكان، يتصارعون حول الفتات، والقطع النقدية عديمة القيمة.
نجمة سداسية تستولي على وجه قطعة نقدية مغربية، استحال لونها إلى سواد، والسبب أنها مصنوعة من الحديد. هذا هو شكل العملة المغربية التي كانت متداولة في الأسواق. لكن قيمة المال كانت شبه منعدمة في وقت كان فيه المغاربة يعيشون من الفلاحة الموسمية، فيما الحرفيون يتقاضون أجورهم بالسلع وليس بالمال، وهذا ما جعل قيمة المال ثانوية، حيث كان التجار يفضلون إخفاءه في منازلهم واستعماله في الموانئ للفوز بصفقات حمولات السفن القادمة من أوربا وأمريكا، بدل نثره في أسواق المغاربة حيث الجميع يعرض خدماته مقابل العيش وليس مقابل المال.
«الشر» الذي جاء به المال يتمثل في كونه أداة لاستخلاص الدولة لضرائبها من الناس، خصوصا في سنوات الأزمة خلال المئتي سنة الأخيرة من عمر الدولة المغربية. فقد مرت فترات كانت فيها خزينة الدولة تحتاج إلى المال وليس إلى الحبوب والمواد الأولية، وهكذا كان واجبا على الدولة أن تلزم السكان بالحصول على القطع المالية وتداولها، حتى تستطيع الدولة فيما بعد استخلاص ضرائبها نقدا. وهكذا ضُربت النقود في فاس ثم في الرباط في وقت لاحق، تسهيلا لهذا الأمر حتى تكون في متناول الجميع.
وكانت مداخيل الدولة الرئيسية وقتها، أي سنة 1900-1910 عبارة عن ضرائب في الموانئ، خصوصا ميناء طنجة والصويرة، ثم الدار البيضاء في ما بعد، على كل السلع والأفراد الذين يدخلون إلى المغرب، وهكذا بدأت السياسة المالية للمغرب تنتعش على الأقل.
أما في علاقة المواطنين المغاربة بالمال، فقد كانت بئيسة تماما، ببساطة لأن المغاربة لم يبلعوا أبدا مسألة الاعتماد على المال للعيش. وفشلت بذلك سياسة الدولة في استخلاص ضرائبها من الجميع نقدا.

اليهود المغاربة.. هذه أسرار علاقتهم بضرب العملة وسيطرتهم على المال
أغلب القطع النقدية التي ضُربت في المغرب خلال القرون الماضية، كانت تحتوي على نقش النجمة السداسية اليهودية، والسبب أن اليهود المغاربة كانوا نافذين جدا في ميدان الاقتصاد والتجارة والصناعات الحرفية، حيث كان التعامل المالي حكرا على شريحة واسعة من اليهود المغاربة.
تتحدث بعض التقارير التي رفعت عنها السرية مؤخرا في فرنسا، سنة 2008 تحديدا، عن أدوار كبيرة لليهود المغاربة خلال الفترة الممتدة إلى ما قبل 1912، وهي تقارير جمعها بعض العسكريين الفرنسيين والمستكشفين من خلال دراسات ميدانية قاموا بها تمهيدا لاستعمار المغرب. هذه التقارير تتحدث عن تغلغل يهودي كبير في الاقتصاد المغربي، وتضمنت ملاحظات عن احتواء القطع النقدية المغربية المتداولة في الأسواق على نجمة سداسية تعتبر رمزا يهوديا خالصا.
لم يكن هذا يعني أنهم كانوا يمسكون بزمام الأمور، فجل المراجع التاريخية التي تتحدث عن مغرب ما بعد وفاة الحسن الأول وصولا إلى خمسينيات القرن الماضي، تلخص واقع المغرب الاقتصادي، حيث يتستنتج أن الذين كانوا يسيطرون على الاقتصاد المغربي، كانوا هم أبناء العائلات العريقة في المخزن والتي يمسك بعض أبنائها بزمام السلطة في مناطق كثيرة. عكس التجار اليهود الذين كان تخصصهم اقتصاديا محضا، فيما كانت السلطة بعيدة تماما عنهم، ولم يكن هناك يهودي مغربي واحد وصل إلى الوزارة أو إلى تمثيل الدولة في منطقة من المناطق، وهذا الأمر حسم الهيمنة على الاقتصاد لصالح العائلات الفاسية وغيرها من العائلات الأخرى في عبدة وسوس ومراكش، ليبقى اليهود المغاربة تجارا نافذين بطريقتهم.
جاء في كتاب «مغامراتي المغربية» والذي يعد ما جاء فيه شهادة نادرة جدا توثق لعلاقة المغاربة النافذين بالإدارة الفرنسية وتأرجحهم مع الأوضاع السياسية لضمان مكانة اعتبارية في حالة ما إذا فازت فرنسا بصفقة استعمار المغرب، أنّ التجار المغاربة كانوا يجمعون المال في غرف خاصة داخل منازلهم، وأنهم عرضوا على الفرنسيين والإنجليز دفع مبالغ مهمة مقابل حماية ثرواتهم المالية من النهب على يد «الثوار». ما أثار دهشة هؤلاء الأجانب، أنهم لم يتوقعوا أبدا أن يكون هؤلاء التجار المغاربة والأعيان يملكون ذلك القدر من المال، حيث جاء في بعض الشهادات أن الأعيان المغاربة كانوا يجمعون القطع المالية في صناديق مملوءة عن آخرها وأكياس توضع فوقها طبقة من الحبوب للتمويه، فيما باطنها مضروب بالقطع النقدية، حتى أن أحدهم علّق على الأمر بالفرنسية في ما معناه: «الله وحده يعلم من أين أتى هؤلاء المخزنيون بكل هذه الأموال التي يريدون حمايتها الآن من النهب».
على الأقل، لم يثبت في المراجع نفسها أن اليهود المغاربة راكموا أموالا بهذه الطريقة، لكن ما كان أكيدا أن بعضهم فروا خارج المغرب، فيما فضل آخرون الهجرة طواعية، خصوصا سنة 1918، حيث سجل ميناء الصويرة رحيلا مفاجئا لعدد من التجار اليهود الذين كانت تجارتهم المالية مزدهرة جدا في المغرب ولم يكونوا أبدا في حاجة إلى الهجرة النهائية خصوصا إلى كندا وأمريكا. تقول بعض المصادر إنهم هاجروا بشكل سري، لكن البعض أعلنوا أنهم راغبون في الهجرة نهائيا عن المغرب، وشاع الخبر بين العائلات اليهودية وغيرها قبل رحيلهم. بعض هؤلاء التجار وجدوا أنفسهم أمام خيار الهجرة لأنهم كانوا يملكون رؤوس أموال ضخمة، واستفادوا من عمليات تجارية فوتتها لهم الدولة، كرخص استيراد أنواع محددة من السلع، تكون حكرا عليهم وحدهم، وبالتالي يكون التاجر اليهودي هو الوحيد في المغرب المخول له استيراد القطن مثلا وبيعه في الأسواق الوطنية. الأمر نفسه تكرر مع السكر والشاي، وبعض السلع الاستهلاكية الأخرى التي كانت تعرف رواجا كبيرا في المغرب.
لم يكن هناك شيء بالمجان، لأن المخزنيين المشرفين على هذا النوع من الرخص، كانوا يحصلون على عمولات «في الظلام» مقابل تمكين هؤلاء التجار اليهود من تلك الرخص، وكانوا يطالبونهم في كل مرة برفع عمولتهم، وهذا ما جعل بعض التجار اليهود يفضلون مغادرة المغرب نهائيا، ولو بشكل منفرد تاركين خلفهم عائلاتهم، ليلتحقوا بهم في ما بعد. وهناك حالات ليهود مغاربة هاجروا إلى أوربا وأمريكا ليؤسسوا لأنفسهم حياة مالية جديدة، وعادوا في سفن تجارية لاصطحاب عائلاتهم معهم، دون أن تلامس أقدامهم أرض الميناء، عادوا فقط لاصطحاب عائلاتهم. هجرة هؤلاء التجار ما بين سنوات 1915 و1918 إلى أمريكا، حرمت المغرب من احتياطي مهم من النقود المعدنية، خصوصا في مدينة الصويرة. الدليل على أن خزينة الدولة تأثرت بهجرة بعض اليهود، هو أرشيف الرسائل الرسمية الذي يضم اليوم مراسلات بين القصر الملكي وبين بعض العمال والولاة الذين تم استفسارهم عن سر اختفاء بعض الأسماء اليهودية من سجل التعاملات المالية الخاص بالموانئ، ليتم إشعارهم أن هؤلاء التجار اليهود اختفوا نهائيا، وقد تكلف بعض موظفي المخزن، من المراقبين ومستخلصي الضرائب، بسؤال التجار الأجانب والسفن التجارية إن كانوا يملكون معلومات عن اختفاء بعض الأسماء اليهودية، خصوصا وأن عددا منهم كانوا لا يدفعون الضرائب للدولة، ورحلوا دون أن يدفعوا ما عليهم.
سر النجمة السداسية المرسومة على القطع المالية المغربية لفترة طويلة من تاريخ المغرب، يرجع إلى أن هؤلاء التجار اليهود كانوا يحتكرون استيراد السلع، وطبعت نقود كثيرة في المغرب بإيعاز منهم حتى يتعاملوا بها مع تجار أجانب، في وقت لم يكن فقراء المغرب يحتاجون إلى المال للبحث عن لقمة يسدون بها الرمق، خصوصا وأن الحرف العادية التي مارسها السواد الأعظم من المغاربة لم يكونوا يحتاجون فيها إلى تداول القطع أو الأوراق المالية.

أول الأجور «المالية» التي حصل عليها المغاربة كانت رشاوى من الاستعمار
كانت فرنسا تخصص مكافآت مالية للذين يتعاملون معها، وهكذا كان هؤلاء يمثلون النواة الأولى للمغاربة الذين تلقوا أجرة مالية مقابل الأعمال التي كانوا يقدمونها لفرنسا، في وقت كان فيه المغاربة يعيشون حياتهم بعيدا تماما عن نظام الأجور الشهرية وحتى السنوية. كان هؤلاء، بطبيعة الحال، يحصلون على أجور بالعملة الفرنسية، وهو ما جعل تداولها أمرا عاديا بالمغرب. الرعايا الفرنسيون كانوا في تزايد خصوصا، مع التسهيلات التي كانت تقدمها فرنسا، للفرنسيين مقابل استقرارهم في المغرب. وهذا ما يعني أن العملة الفرنسية كانت متداولة بكثرة، فيما كانت النقود الحسنية المحلية حكرا على الأغنياء، وأغلب الذين كانوا يتوفرون عليها، كانوا يقبرونها في أماكن لا يصل إليها أحد، تحسبا لنوائب الدهر، ولم تكن موجهة في أغلبها للتداول في الأسواق، وهو ما أثر كثيرا على الاقتصاد الوطني في وقت كانت فيه أوربا تجتاح كل شيء.
حتى المغاربة الذين كانوا «محميين» ولم يكونوا خاضعين للقانون المغربي، وبالتالي لم يكونوا مطالبين بدفع ضرائبهم للدولة المغربية، فإنهم كانوا يتلقون أجورهم بالعملة الأجنبية، ويتداولونها في تعاملهم مع الفرنسيين والبريطانيين، لكنهم كانوا يخفون ما بحوزتهم من عملة «حسنية»، وهو ما جعل صاحب كتاب «مغامراتي المغربية» يكتب فصلا كاملا بعنوان: «نهاية العملة الحسنية»، وتحدث فيه عن نهاية العملة المغربية وكيف اجتاح الفرنك الفرنسي كل شيء، حتى أن فرنسا كانت تفكر في طبع عملتها في المغرب لأن التكلفة ستكون منخفضة وأيضا لكي يسهل عليها تعميم عملتها الرسمية في المغرب، والقطع نهائيا مع العملة المغربية.
هذا الخبر نزل على المغاربة كالصاعقة، خصوصا منهم الذين كانوا يخبئون كميات كبيرة من النقود الحسنية لأنهم فطنوا إلى أنها لن تكون ذات قيمة مستقبلا، لكنهم تلقوا تطمينات من بعض التجار، وأخبروهم أن قيمة المال لا تسقط أبدا حتى بعد اختفائه من الأسواق على حساب عملة أخرى، وأن القيمة الحقيقية للقطع النقدية تحددها ضوابط أخرى لا تُلغى بانتهاء التداول بها.
وهكذا كانت أولى الأجور التي حصل عليها المتعاونون مع فرنسا عبارة عن «رشاوى» مباشرة لهم لقاء تعاونهم مع فرنسا، فيما بقي «الحسني» عملة نادرة أحسن المغاربة إخفاءها، خصوصا في الفترة التي سبقت توقيع معاهدة 1912.
تذكر التقارير الاستخباراتية الفرنسية التي رفعت عنها السرية مؤخرا، والتي تعود كلها إلى أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، أن بعض المغاربة خصوصا منهم المتعلمين، كانوا يحتفظون لأنفسهم بعلاقات جيدة مع الموظفين الفرنسيين، وكانوا يحصلون على أجور ثابتة بالفرنك الفرنسي، وهو ما مكنهم من عيش حياة رغيدة وعصرية مقارنة مع بقية المغاربة الذين كانت حياتهم بعيدة تماما عن العملة ونظام الأجور. لكن نهاية هؤلاء المتعاونين مع فرنسا كانت مأساوية جدا سنة 1956، حيث إن أغلبهم لقوا حتفهم في المظاهرات التي نزلت إلى شوارع الرباط والدار البيضاء مباشرة بعد الإعلان عن استقلال المغرب، وبدأت عمليات تصفيات المتعاونين السابقين مع فرنسا، كما أن الدولة صادرت ممتلكاتهم، وهناك منهم من عرض دفع كفالة مقابل السماح له بمغادرة المغرب نهائيا حتى لا يلقى نفس مصير زملائه، وكانت المفاجأة أن بادرت فرنسا إلى أداء الكفالة عن المتعاونين معها بمئات الآلاف من الفرنكات الفرنسية التي دُفعت مباشرة للمغرب.

حروب اندلعت بسبب رفض دفع الضرائب واختفاء المال

لم يكن أحد من الذين يعملون لصالح المخزن والواقفين في ظله الطويل، ليغامروا بصرف أموالهم على توافه الأمور أيام الأزمات، ولم يكونوا أيضا مبادرين إلى إعطاء صورة صادقة عن قيمة ما يملكونه من المال. هذا على الأقل ما حاول صاحب كتاب «زمن المحلات» أن يقوله بطريقة أو بأخرى، عندما تحدث عن الرجال المحيطين بالقصر أيام الحسن الأول وفي أيام أبنائه بعده. لم يكن موظفو الدولة يصرحون بممتلكاتهم، وكانوا يملكون الكثير. لم يكن حمل المال عادة شائعة في المغرب، ببساطة لأن النافذين يحصلون على كل ما يريدونه دون دفع المال. لكن حقيقة ممتلكاتهم، ظهرت عندما اندلعت حروب الانقلابات، حيث كان يتم عزل الولاة وتعيينهم بشكل مستمر. وقد جاء في تاريخ الضعيف وفي «الاستقصا»، اللذين يعدان مرجعين تاريخيين نادرين يؤرخان لوقائع، حسب الرواية الرسمية وحسب ما تم تدوينه وما تم استخلاصه من رسائل رسمية، أن الصراعات بين العمال وممثلي السلطة في المناطق البعيدة عن المركز، كشفت مقدار البذخ والثراء الذي راكمه عدد من موظفي المخزن الذين كانوا مواطنين عاديين قبل وصولهم إلى السلطة.
ما جاء في هذه المراجع يقول إن عددا من الذين تم الانقلاب عليهم، تمت مصادرة ممتلكاتهم أو ما تبقى منها على الأصح، لأن أغلبها تعرض للنهب على يد الذين قاموا بالانقلابات وأصبحوا لحسن حظهم ممثلين جددا للسلطة بالمغرب. هؤلاء وجدوا خزائن للمال وصادروا بعض الأواني الفخارية التي كانت مليئة بالعملة «الحسنية» وهي نقود ضربت في المغرب أيام الحسن الأول وكان التعامل بها جاريا عكس العملات السابقة التي كانت محدودة الانتشار. بفضل السلطة التي كانت لديهم، راكم ممثلو السلطة كميات كبيرة من النقود الحسنية لكن ثروتهم ضاعت تماما عندما سقطوا سقوطا مدويا إلى القاع.
المثير في قضية العملة المغربية أنها كانت لا تظهر للعلن إلا بعد رحيل أصحابها أو في الحروب، وهو ما يكشف أن دورها كان محدودا خصوصا في المناطق التي تسيرها القبائل، حيث لم تكن للمال قيمة كبيرة بقدر ما كان الرهان على المحاصيل الزراعية. فحتى الحرفيون كانوا يحصلون على أجرتهم عن طريق المقايضة، وهي الطريقة التي تعامل بها المغاربة في أماكن كثيرة إلى ما بعد حصول المغرب على الاستقلال، أي إلى وقت متأخر في نهاية الخمسينات، وهو ما يكشف أن القطع النقدية والأوراق المالية لم تكن محورا لحياة المغاربة بقدر ما كانت لعنة تطارد الأعيان والنافذين.

هكذا انطلق المغرب بعد الاستقلال بدون أموال وبدون خزانات

قبل إنشاء الإدارات المغربية، كانت الإدارات الفرنسية الموجودة بالمغرب، خاضعة إداريا وماليا لفرنسا، وهكذا كانت أجور العاملين بها تدفع من فرنسا، بشكل يجعلها امتدادا للتراب الفرنسي في المغرب. وبعد الاستقلال وجد المغرب نفسه أمام تحد اقتصادي كبير يتمثل في توفير كتلة مالية لتمويل أجور الموظفين الذين كانوا مغاربة جُددا وفرنسيين أوكلت إليهم مهمة التأطير لتأسيس النواة المغربية، لكن المثير أن المغرب لم يكن يتوفر على أي دخل لملء خزينة الدولة التي قالت مصادر تاريخية كثيرة إنها كانت فارغة تماما، وهذا الأمر بحد ذاته كان معضلة كبيرة.
أوكل أمر ضخ الأموال في خزينة الدولة إلى أسماء معروفة عالميا في الاقتصاد، وعلى رأسهم «الغزاوي»، الرجل الفاسي النافذ الذي أوكل إليه أمر تأسيس الأمن الوطني بماله الخاص، وضخ في خزينة الدولة ملايين الفرنكات الفرنسية، وضخ بنفسه أجور الموظفين ومصاريف إنشاء الإدارات والفروع الجديدة وسيارات الخدمة أيضا، ومصدر ثروة هذا الرجل راجع إلى أعماله التجارية المزدهرة منذ الأربعينات في أوربا وأمريكا، وهو ما يعني أن هذا الرجل كان يقوم بمبادلات تجارية واستيراد وتصدير، ولم تُسائله الدولة المغربية يوما عن الضرائب، فكان أن تم استقطابه كرد لجميل الدولة مقابل أن يسند إليه أمر الإشراف على الأمن الوطني بالمغرب، وبعده إلى مؤسسة اقتصادية مرموقة أخرى.
حرب حقيقية كادت تندلع بالمغرب بسبب عجز الدولة مبدئيا عن أداء أجور موظفيها، وأيضا الحمل الثقيل الذي ألقي على عاتقها عندما تملصت فرنسا من أبنائها الموظفين في المغرب، وألزمت الدولة المغربية بدفع أجورهم وامتيازاتهم، ما دام المغرب قد أصبح دولة مستقلة عن فرنسا بعد سنة 1956، وهو الأمر الذي استنزف خزينة الدولة كثيرا، وجعل أمر هيكلة اقتصادية سريعة للمداخيل، أمرا ملحا.
كان لفرض الضرائب على الممتلكات دور كبير في إنعاش خزينة الدولة، خصوصا وأن بعض الفرنسيين الذين اختاروا البقاء في المغرب بعد الاستقلال، كانوا مطالبين بدفع ضرائب للدولة المغربة لأنهم كانوا يديرون مصانع وشركات ثرية، وهو ما شكل دخلا مؤقتا لخزينة الدولة، والمثير أن هؤلاء الفرنسيين كانوا يدفعون بالعملة الفرنسية، أي أن النواة الأولى للاقتصاد المغربي بعد الاستقلال كانت وفق المعايير الفرنسية، إلى أن استطاع المغرب القيام بأولى عمليات طبع العملة المغربية نهاية الخمسينات وبداية الستينات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى