الرأي

حكاية الصياد الأحدب

وقد تصادف أن كان الغد يوم عيد، فلم يذهب علال إلى البحر لأول مرة في حياته، إذ قرر الاحتفال مع أسرته بهذا اليوم العظيم، وبالحدث الرائع الذي أدخل الفرحة على حياته حتى صار أسطورة زمانه التي سيذكرها الناس والتاريخ. وقد تحسنت أحواله وصار بإمكانه أن ينفق ويعيش في دفء وسعة مع توفير قسط من المال.
وفي منتصف الليل والناس نيام، استفاق «عنفة» والغل يقض مضجعه، ثم قصد إلى البحر متخذا طريق «لالة رحمة» المقفر والخالي من السكان والمباني، مرورا بـ«الكرنة»، إلى أن وجد نفسه فوق الرمال المبتلة، فأخذته قشعريرة سرت في أوصاله كتيار كهربائي، فسيطر عليه الفزع في هذا الظلام البهيم، فأراد العودة من حيث أتى، لكن حقده كان المحرك الأقوى لما يعتمل بداخله، فبدأ يشتعل بأمراضه التي تنخر خواطره السقيمة: «كيف تتراجع؟ لقد تخلص علال من حدبته النكراء وصار طويلا فارع القامة وسيما ومحبوبا بين الأهالي، أما أنت فسوف تنال ما هو أفضل إذا صمدت قليلا… إياك أن تتراجع…».
تقدم «عنفة» خطوات وئيدة نحو الأمام ولا شيء يشغل باله غير الحصول على كنز ثمين يجعله فوق الجميع.
وفي غمرة تلك الهواجس المتضاربة والأماني المرتجاة، خيل إليه أن شيئا ما يحدث حوله غير بعيد عنه، فبدأ يسمع أصواتا متداخلة وغير مفهومة، لم يستطع تمييزها مطلقا، فتسمر في مكانه خوفا وهلعا؛ وسرت في بدنه قشعريرة جعلت مسام جلده تنتفخ قليلا وشعر جسمه ينتصب كأشواك الصبار، فكاد يتراجع موليا أدباره، لولا أن الهاجس السقيم داهمه من جديد، في الوقت الذي اقتربت منه الأصوات المجهولة أكثر فأكثر؛ بل وأحاطت به من كل جهة وكأن الأقدار نسجت حوله نسيجا عنكبوتيا وهميا منعه من الحركة، عندها سمع الأصوات بوضوح تام ملء سمعه قائلة:
«الخميس والجمعة والسبت // سكسو بالجعدة واللفت»…
فتذكر على الفور حكاية علال؛ وقرر أن الفرصة سانحة، فأصاخ السمع مرة أخرى حيث استمر المنشدون الأشباح دون اكتراث لوجوده، مما زاده جرأة وإقداما على تنفيذ ما خطط له، لكنه احتار في ما سيفعله أو يقوله، خصوصا أنه لم يعتد على المشاركة في اللقاءات والمشاركات والتجمعات الموسومة بالفرح والابتهاج، لأنه كان مكروها مقيتا لا يستطيب وجوده أحد، مما طبع مخيلته بالجفاف والضحالة التي لا تنتج إلا الحقد… ومع ذلك وفي هذه اللحظة بالذات، استرجع أيام السعادة القليلة المنصرمة وما تخللها من «مخافي الكسكس» المتللة بركام الخضار المتنوعة والتي تخفي تحتها قطع لحم العجول أو الغنمي أو الدجاج المكتنز، فتبادر إلى ذهنه أن ما ينقص المنشدين هو نوع من الخضر الأساسية لإعداد مخافي الكسكس تلك، ومن ثم انتظر لازمة النشيد المتردد في جنبات البحر:
«الخميس والجمعة والسبت // سكسو بالجعدة واللفت»…
ليردد في نبرة مختلة: «زيدوه حتى الكرمبي // زيدوه حتى الكرمبي».
وعلى الفور توقف المنشدون شاعرين بغرابة ما أتى به هذا المخلوق المزعج، مقررين أن ذلك مخل بفرحهم وغير منسجم مع نشاطهم، وبالتالي فقد اختلط الإيقاع الموحد الذي فوت عليهم فرصة اللهو والمرح الجميل، فأجمعوا على مجازاة هذا المتطفل الذي دس أنفه في ما لا يعنيه بما يستحق، ثم رددوا من جديد… (يتبع…)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى