الرئيسيةثقافة وفن

حكاية كلب

عبد السميع بنصابر

*كاتب مغربي*

 

في العدد السابع بعد المائة من مجلة «العندليب»، قرأ أحد الصبية معلومة غريبة، مؤدّاها أن الكلاب لا ترى الألوان. لكن «ريكس»، استطاع، ذاك المساء، في لحظة استعصت على نظريات العُلماء، أن يميّز صُفرة سروال صاحبه، عندما عمد أحدهم إلى نزعه داخل الملعب أمام الملأ، حتى لا يرتفع بجسمه إلى الأعلى ويصدّ الكرة المتّجهة نحو المرمى. تعالت هُتافات شباب القرية، وصرخ الحشاشون والسّكارى والأطفال. ولم يستطع الكلب المُسنّ أن يميّز في ما إذا كانت تلك الهتافات فرحاً بتسجيل الهدف، أم بسبب تكشُّف عورة صاحبه. وعندما أعياه التفكير نبح طويلا، واختلط نباحه بعوائهم. نعم، في مثل هذه المواقف عليه أن ينبح فقط، لأنّ أنيابه لم تعُد حادّة كما كانت، وزمجرته لم تعد تخيف النمل. والمكان الذي كان يتكوّمُ فيه بين الجمهور، لم يكن سوى محض جميل منهم، وربما كان ذلك على سبيل الألفة. إنه يعلم ذلك ويوقن به مثلهم. وهو يتذكّر جيدا كيف أن الجميع ناداه قبل سنوات بـ«ريكس»، ثم أمهلوه فترة حتّى برزت عظامه، ولم يعد بعدها أحد يهتمّ به. وحتّى إذا ما أراد أحد أن يشير إلى مسكن صاحبه، مدّ سبّابته قائلا: «حيث يتكوّم ذلك المجحوم!».

حين كان الشباب ينوون حضور حفل زفاف بقرية مجاورة، كانوا يمرون كعادتهم على مسكن صاحب الكلب، ثمّ يطلقون صفيرا متواصلا، فينبري الكلب من بين أشجار الصبّار. ولم يكن الإصرار على صحبته بدافع الاحتراس من قطّاع الطرق. كلّا، فهُم من كانوا يتكلّفون بقطعها أساسا. لكن السبب أنّ لـ«ريكس» هذا، وإن نحُفَ وخارت قواه، حاسة شمّ عز نظيرها. فإذا حدث وتوقّف في لحظة ما ومدّ خيشومه وارتفعت أذناه، فلا بدّ أنّ ثمة أفعى متكوّمة تتربّص بأحد في الجوار. ولم يكُن المجحوم غبيا حتى يتبع هؤلاء الفتية العابثين، ويقطع تلك الأميال في الليالي عبثا، دون أن يمنّي نفسه بفضلات الأعراس التي كانوا يرمون بها طيلة طريق العودة، كلّما تباطأت خطواته من العجز والتّعب.

في تلك الليلة، لم يحتج المجحوم قطع مسافة لينعم بعظام الدّجاج كما ألف، فقد ملأ الدنيا وشغل الناس حفل تنصيب رئيس الجماعة القروية. والرئيس الجديد، كما يعلم الجميع، أحد أبنائها البرَرة، ولن يحسّ بجوعهم أكثر من جائع قديم. لذلك قُدحت نيران المطابخ، وارتفعت أدخنة الشواء، وامتلأت الأطباق بما لم يحلم به هؤلاء البؤساء يوما. حتّى إنّ القطط والكلاب تجشأت ولم يبق إلا أن تولغ في كؤوس الليمونادا أيضا..

في صبيحة اليوم الموالي، كانت القرية قد دشّنت عهدا آخر مع رئيسها الجديد، أعلنتها لافتات الترحاب الّتي زيّنت أسوار المنازل الطوبية. تقدّم المجحوم نحو إحداها، ثمّ مدّ خيشومه يتشمّمها. وحين تأكّد ألا خطر في ذلك، رفع قائمته ثمّ تبوّل على أحرفها البارزة، قبل أن يسترخي مغفياً قرب صنوبرة في اطمئنان. وفي تلك اللحظة، وبعيدا عن هناك بأمتار قليلة، كان المستشارون يتحلّقون بإحدى قاعات مقرّ الجماعة مستنفرين آذانهم لسماع أوّل خطاب للرئيس.

مدّ الرجل يده ليفكّ ربطة عنقه قليلا، ثمّ نحنح وهو يربّت على المايكروفون:

«أيها السادة المحترمون،

إنّ الله لا يُغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم (…) إنّ القرية بحاجة إلى حملة تنظيف واسعة (…) ولن أعلن بدايتها قبل أن نقضي على الكلاب –أعزّكم الله- التي ملأت أزقّتها.»

ارتفعت الأيادي مصوّتة مصفقّة للقرار، وقبل مغادرتهم القاعة، انتشر الخبر كما تنتشر النار في هشيم حلفاء. وما هي إلا ساعات حتّى سُمع دوي البنادق مصحوبا بهدير شاحنة الجماعة وهي تلمّ جثث الكلاب المتناثرة في كلّ مكان. ورفع شيخ عُكّازه في الهواء صائحا في حماسة: «واااالخيل!»

كان الصبيةُ يتراكضون أمام الشاحنة يدلون عمّال الجماعة على مواضع الكلاب، وحين تشمّم «ريكس» رائحة البارود، كان الأوان قد فات. إذ إن رصاصة اخترقت قائمته الخلفية قبل أن يفرّ بجلده، فراح يزحف مطلقا نباحا أشبه بالنواح، وهو يحاول الاختباء بين جذوع الأشجار. وحينئذ انهالت عليه الطلقات العشوائية، فانفجرت الدماء من بين عظامه. ومرة أخرى، استطاع أن يميّز لونها الأحمر القاني ضدّا على كلّ النظريات، مُدركا، في الآن نفسه، أنها آخر عهد له بالحياة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى