شوف تشوف

الرئيسيةملف التاريخ

حلاقو الملوك والوزراء

التاريخ المنسي لحلاقي الملوك والوزراء

يونس جنوحي

«ربما كان الملك الراحل محمد الخامس، آخر السلاطين العلويين الذين عايشوا الطقوس القديمة للحلاقة، قبل أن تدخل الآلات الكهربائية إلى صالونات الحلاقين، مغاربة وأجانب. فعندما كان الملك الراحل محمد الخامس في عقده الثالث، كان ابنه الحسن الثاني صغير السن، لكن مربيته الفرنسية استقدمت له حلاقا فرنسيا معروفا في الرباط، كان يقدم خدماته للأعيان الفرنسيين والأسر الفرنسية المستقرة في الرباط. وكان هذا الحلاق يأتي إلى القصر الملكي بانتظام حاملا معه أدوات الحلاقة في حقيبة جلدية أنيقة ويقدم خدماته لولي العهد تحديدا ويغادر القصر.
من بين ما تم تدوينه أن السلاطين العلويين كانوا يستعملون أثناء الحلاقة، خصوصا مع المولى محمد الرابع وابنه المولى الحسن الأول، ثم مع المولى يوسف، محارم بيضاء يتم جلبها خصيصا من مكة خلال موسم الحج كل سنة ويتكلف مخزني واحد بالحفاظ عليها طيلة السنة حيث توضع في صندوق خاص. أما أدوات الحلاقة فكانت عبارة إما عن هدايا تلقاها القصر من أصدقاء السلاطين الأجانب وإما أن تعهد صناعتها لحرفيين مغاربة كانوا معروفين بالتعامل مع القصر الملكي ويشرفون على صناعة المفاتيح وكل الأدوات الحديدية، بما فيها أدوات الحلاقة التي كانت تصنع خصيصا من الفضة أو الذهب في بعض الحالات النادرة، ولا تتم صناعة نظائر لها، حتى يستفرد الحرفي الذي صنعها بفخر الحصول على الرضا الملكي عن تلك الأدوات».

لماذا هُمش الحلاقون من التاريخ؟
لقد مورس إجحاف كبير في حق الحلاقين رغم أنهم كانوا شهودا على أحداث مهمة من التاريخ. تناول بعض المهتمين بتاريخ المغرب الحديث جوانب مهمة من حياة الملك الراحل الحسن الثاني ونشأته بل وحتى أسماء مربياته والسائقين وبعض أصدقاء والده الراحل الذين كانوا شبه مقيمين دائمين في القصر الملكي. لكن لا أحد فكر مثلا في التنقيب عن هوية الحلاق الذي كان مكلفا بتحديث تسريحات شعر ولي العهد وهو طفل.
في هذا الملف سوف نعود إلى بعض التفاصيل المرتبطة بهذا الموضوع وإلى الأدوار التي لعبها الحلاقون وهم يُدخلون حرفة الفقراء إلى قلب قصور الأغنياء الذين كانوا «يترفعون» عن دخول أسواق العامة ومخالطتهم. فقد كان أثرياء المغرب يلجؤون إلى خدمات الحلاقين في طقوس خاصة تختلف تماما عن طقوس إقبال المغاربة العاديين على الحلاقين، خصوصا في الأسواق الأسبوعية البسيطة وبين أزقة المنازل.
ربما يكون حلاق الباشا التهامي الكلاوي أول حلاق مغربي يُجري مقابلة مع كاتب أجنبي خلال بداية ستينيات القرن الماضي لكي يتحدث عن علاقته بواحد من أشهر أثرياء المغرب في التاريخ. سوف نعود في هذا الملف إلى بعض تفاصيلها، رغم أن الرجل لم يُفش أسرار الباشا ولم يحك عما كان يعايشه عندما يغلق الباشا باب غرفته لكي يسلم رأسه وعنقه لحلاقه الخاص.
كان الحلاقون، كما الوزراء، يتعرضون لغضبات وتقلبات أحوال السياسة. فقد كان حلاق السلطان الحسن الأول، محل غضب من طرف بعض الوزراء مباشرة بعد وفاة السلطان. وبالنسبة لحلاقين آخرين، فقد كانت عملية حلاقة رؤوس وزراء ومستشارين كبار في الدولة، تنتهي غالبا بالمشاكل، إذ أن بعض الوزراء كانوا يخططون لسحب البساط من تحت أقدام حلاقين حرفيين صاروا أغنياء بعدما أصبحوا يلجون القصور والإقامات الخاصة بانتظام لكي يحلقوا رؤوس زبائنهم ويقدموا لهم خدمات خمس نجوم من بينها الاهتمام ببشرة الوجه وتقديم حصص تدليك وإجراء الحجامة وسحب الدم الزائد وتنشيط الدورة الدموية وإزالة الأضراس المريضة. لقد كان الحلاقون نوابا عن الأطباء في تلك الفترة. كانوا يقومون بكل شيء، إلا السياسة!

كيف كان «حلاقو» المخزن يتوارثون «الحرفة»
تحولت بعض العائلات التي امتلكت الحرفة إلى عائلات ثرية عندما دخلت قصور وإقامات نخبة المجتمع المغربي في القرن 19.
كان المنزل المغربي دائما محط اهتمام أجنبي، وكُتبت مذكرات كثيرة عن البيت المغربي وأركانه وتقاليده، خطّها الأجانب الذين زاروا المغرب وتوغلوا فيه وتحولوا إلى مؤرخين، نظروا إلينا من الخارج.
ومن الداخل، كان مؤرخون مغاربة سباقون إلى تدوين بعض التفاصيل المرتبطة بأصحاب المهن الذين تحولوا إلى أثرياء، بفضل انفتاح العائلات الثرية المغربية على الحياة واهتمامها بتفاصيل اللباس والاناقة. وهؤلاء الحرفيون الأثرياء، أورثوا أبناءهم الحرفة وأسرارها.
لنبدأ بالعين الأجنبية، وكيف كان أصحابها ينظرون إلى الأسر الثرية. وهنا يتعلق الأمر بأسرة حلاق مغربي من فاس، كانت أصوله المراكشية مثار اهتمام عدد من الأجانب الذين زاروه وكانوا يفكرون في التوغل أكثر في المغرب.
وقد كتب عنه مغامر يدعى «جونسون لاكلود» من لأب فرنسي وأم بريطانية، وقد ألف مجموعة من الكتب عن الشرق خلال القرن 19 وختم مغامراته بزيارة المغرب والجزائر أيضا. قال في أحد مقاطع مذكراته عن المغرب التي جمع فيها مشاهداته عن الجزائر أولا ثم المغرب إن الأغنياء المغاربة أناس محافظون لكنهم يحلمون بالانفتاح على الحياة، وأشار إلى أنهم كانوا يهتمون بوسائل الراحة ويخصصون طقوسا وجلسات باذخة للحلاقة. يقول: «كان يوم الخميس مقدسا عند الحاج علي المراكشي الذي زرته في ذلك اليوم من سنة 1898. قال لي مفتخرا إنه يحلق رأسه مرة كل خمسة عشر يوما. ويستقدم الحلاق خصيصا لهذا الغرض لكي يقوم بعملية الحلاقة في قلب المنزل. كان يشير بيده إلى حلاق يرتدي جلبابا شديد البياض وتبدو عليه هو الآخر آثار الثراء خصوصا أنه كان يعلق سلسلة ساعة ذهبية بريطانية الصنع وكان ينظر إليها بين الفينة والأخرى مراقبا الوقت. قال لي الحاج علي إن ذلك الحلاق كان هو الحلاق الخاص بالسلطان نفسه، لكنه مُنع من دخول القصر الملكي لأنه أخطأ مرة وقام بجرح وزير عندما كان يحلق شعر رأسه بالموسى، ومن يومها عمل الوزير على ألا يعود هذا الحلاق إلى القصر.
لكنه استمر في كسب المال عندما استدعاه أثرياء فاس لكي يكون حلاقهم الخاص. يطوف عليهم جميعا مساء يوم الخميس بعد أداء صلاة العصر. ويجلب معه أدواته النحاسية البراقة ويشرع في العمل. يسخن الماء، ويستعمل ماء الورد وبعض العطور المشرقية ويستعمل أدوات محلية لتجهيز آلة الحلاقة، بينما صاحب البيت كان يجلس فوق كرسي خشبي وحوله أطفاله يتابعون العملية. كما أن الحلاق كان يجلب معه ابنين اثنين، أفهمني الحاج لاحقا أنهما يتعلمان الحرفة من والدهما وبعد سنة تقريبا سيصبحان جاهزين لحلاقة رؤوس أثرياء فاس وأعيانها الكبار».
وهذا السفير الأمريكي، أو القنصل حتى نكون أكثر تحديدا، يتناول بعض المشاهد من المنازل المغربية سنة 1907 تقريبا، وهي السنة التي حل فيها بالمغرب من أجل مهمته الدبلوماسية في طنجة والتي استمرت لسنوات تعرف خلالها جيدا على المغاربة وعاداتهم وطقوسهم وحتى مزاجهم. يقول: «كعربون على الترحيب، دعاني السيد بن شطون إلى منزله لأقضي الليلة الأولى بحكم أن المنزل الذي وضع رهن إشارتي كان يحتاج إلى أعمال تنظيف وترتيب. عندما حان وقت النوم، مباشرة بعد الغروب بقليل، شرح لي بإسبانية حذرة بأن لديه تشريفا لي يحتفظ به دائما للضيوف المميزين: يجب أن أنام في السرير الفخم الذي نام فيه صاحب السمو الملكي آلبرت إيدوارد أمير «والز». لقد جاء إلى أصيلة قبل سنوات في رحلة صيد، وقبل أن يصبح ملكا لبريطانيا.
لقد قضى ملك بريطانيا العظمى المستقبلي ليلة في منزل بن شطون. وبذلك يكون منزل بن شطون قد حظي بتكريم ملكي منذ ذلك الوقت.
كان سريرا جيدا. ممتازا. كان طويلا وواسعا بشكل كاف ليحمل ملكا أو قنصلا. نمت جيدا، وحلمت أن هناك حراسا طوالا شدادا يحرسون باب الغرفة». لم يكن بن شطون في الحقيقة سوى حلاق ترك مهنة الحلاقة جانبا وتفرغ لصداقات الأجانب. وقصة ولوجه إلى هذا العالم المثير والغامض وقتها، هو أنه حلق رأس أجنبي في طنجة، اتضح له أنه موظف مرموق في المفوضية الإيطالية في طنجة، ومن يومها أصبح كل زبنائه من الدبلوماسيين وامتنع عن حلاقة رؤوس المغاربة، وأصبح بعدها ممثلا دبلوماسيا لعدد من الدول.

حلاقون برتغاليون أسسوا لحلاقة «الأعيان» في المغرب قبل 200 سنة
كانت الحلاقة سلوكا عقابيا في البداية داخل دار المخزن. وقد أشار مرجع «الاستقصا في أخبار المغرب الأقصى» إلى هذا الأمر في كثير من التبويبات حسب الأحداث. بالإضافة إلى عبد الرحمان بن زيدان، المؤرخ السابق للمملكة خلال ستينات القرن الماضي، وأيضا المؤرخ عبد الكريم الفيلالي. ومنها أن المولى إسماعيل شخصيا كان يوظف داخل قصره عائلة كاملة من الحلاقين كانت مهمتهم حلق رؤوس العبيد عقابيا لتأديبهم، وأيضا حلاقة رؤوس بعض موظفي المخزن، خصوصا الذين ارتكبوا أخطاء أثناء القيام بمهامهم التي تتوزع بين الكتابة وبين نقل الرسائل.
وقد ورد أن المولى إسماعيل أمر بحلاقة شعر موظف مخزني لمحه يفتح رسالة من السلطان إلى أحد الوزراء، الذي لم يكن مكتبه يبعد عن دار المخزن سوى بمسيرة دقائق معدودة.
لا تهمنا هنا السلوكات العقابية، رغم أن بعضها غاية في الإثارة، بقدر ما تهمنا حقيقة نشوء أسرة كاملة من الحلاقين داخل دار المخزن بالقصر الملكي، قبل ثلاثة قرون ونصف تقريبا.
يحكى أيضا في قصص وأخبار المؤرخين المغاربة مثل «تاريخ الضعيف الرباطي»، وأيضا «تاريخ أخبار المغرب» أنه في عهد السلطان محمد الرابع، والذي حكم ما بين سنوات 1859 و1873، وهو في الوقت نفسه والد المولى الحسن الأول، عرف المغرب وجود حلاقين أجانب ويهود. وأحد هؤلاء الحلاقين اليهود كان شهيرا في أسواق فاس، وكان يطلبه الأثرياء المغاربة وكبار التجار وموظفي المخزن لكي يأتي إليهم لمنازلهم للقيام بطقوس خاصة للحلاقة كان الرجل يتقنها جيدا. إذ بالإضافة إلى الحلاقة كان أيضا يُتقن الحجامة والتدليك ويحفظ الكثير من الأشعار والحكم، وسبق له أن زار أوربا، وهكذا كان لسانه يغطي على ما يمكن أن ترتكبه يداه من أخطاء أثناء الحلاقة التي كانت تتم في ذلك التاريخ بوسائل بدائية للغاية، لكنها كانت ناجعة.
ورغم أن بعض القصص تضاربت بخصوص العائلات اليهودية التي كانت ترشح حلاقين لهؤلاء الأثرياء المغاربة في فاس، إلا أن الأكيد أن خدماتهم كانت من فئة خمس نجوم.
أما بالنسبة إلى المولى محمد الرابع، فقد راج أن بعض الأسرى البرتغاليين والإسبان الذين عاشوا في المغرب لفترة قبل أن يعاد ترحيلهم إلى بلدانهم الأوربية في إطار اتفاقيات مع المغرب وقتها، قاموا بتعليم حلاقين مغاربة أصول الحلاقة على الطراز الأوربي باستعمال أدوات حديثة تمت صناعتها بناء على المواصفات التي قدمها أولئك الأسرى، وبعضهم اشتغلوا حلاقين، لكن الأثرياء والأعيان المغاربة وحتى موظفي المخزن لم يكونوا يثقون في الأسرى الأجانب، ولم يملك أغلبهم شجاعة منح رقابهم لـ«النصارى».

حلاق الباشا الكلاوي الذي وصل إلى العالمية
من بين أكثر الشخصيات المغربية التي خلقت طقوسا خاصة بها، جريا على عادة ابتكار التفرد وصقل الشخصية، نجد الباشا التهامي الكلاوي الذي كان يحكم مراكش ونواحيها بيد من حديد.
هذا الرجل الذي دخل التاريخ من أوسع أبوابه، كانت ثروته خلال أربعينات وخمسينات القرن الماضي تضاهي ثروات كبار الأثرياء في أمريكا والعالم. وأصدقاؤه من المشاهير وعالم السينما لم ينجحوا في التأثير عليه لكي يأتي بحلاق أوربي ليشرف على أناقته، حتى أنه كان أحيانا يصطحب معه خلال رحلاته الطويلة حلاقه الخاص، الذي كان مراكشيا أيضا.
الكاتب الأسكتلندي غافين ماكسويل أفرد حيزا من كتابه عن الباشا الكلاوي الذي ألفه سنة 1969، وكتب أن الرجل لم يكن مجرد حلاق وإنما أيضا كان بمثابة «جهاز التلفاز»، الذي احتاجه الباشا لتبديد الضجر الناتج عن ساعات الانتظار الطويلة في مكتبه لكي يعرض عليه أعوانه وموظفو المخزن ما في جعبتهم من رسائل وقضايا، بحكم أنه كان يمثل السلطان في المنطقة.
ذكر «غافين ماكسويل» أن حلاق الباشا كان في الوقت نفسه صديقه المقرب. وقد سبق أن أشرنا في «الأخبار» في حلقات هذا الصيف، إلى أن حلاق الكلاوي كان يحمل نفس اسم مؤنس الملك الراحل الحسن الثاني ولعل الأمر تشابه في الأسماء، أو انتماء الرجلين إلى نفس العائلة، بحكم أن «بنبين» الذي تحدث عنه «ماكسويل» كان مُسنا في سنة 1964 التي التقاه خلالها في المغرب. بينما «بنبين»، مؤنس الملك الراحل الحسن الثاني، كان في تلك الفترة في بداية شق علاقته بالملك الراحل.
لكن المحير أن محمد بنبين الذي كان جليس الباشا الكلاوي، حسب «غافين ماكسويل»، كان أيضا متحدثا بارعا و«حكواتيا» وحافظا للأشعار، بالإضافة إلى إتقانه للحلاقة إلى درجة أن الباشا جعله حلاقه الشخصي الخاص، وكان يقدم له جلسات في التدليك و«الماساج» لتنشيط الدورة الدموية والترفيه عنه بالحكايات الشعبية والحكم القديمة وقصص التاريخ. وهي الوظيفة نفسها التي كان يقوم بها الفقيه محمد بنبين، مؤنس الملك الحسن الثاني الذي عاش معه طيلة فترة حكمه تقريبا، منذ الستينات إلى سنة 1999، وكان معروفا أن مؤنس الملك الحسن الثاني سبق له الاشتغال في الإدارة مترجما، قبل أن يتعرف على الملك الحسن الثاني في ظروف خاصة، ويصبح أفضل مؤنسيه الذين لا يفارقونه داخل القصر الملكي وخارجه.
ربما تكون هناك علاقة عائلية بين «الجليسين» بحكم انتمائهما إلى نفس المدينة، وربما يكون هناك خلط قد وقع لغافين ماكسويل، وهو أمر غير وارد بحكم أن الرجل خصص سنوات من البحث قبل إصدار «لوردات الأطلس». قال ماكسويل عن الحلاق بنبين إنه كان مُجاملا جيدا، وهي الخصلة التي كان يحتاجها الباشا الكلاوي أكثر من غيرها خصوصا خلال الفترات الحرجة. لقد كان يحتاج إلى من يرفع معنوياته، خلال مراحل الإهانات التي تعرض لها من طرف الفرنسيين، الذين كرس حياته لصداقتهم وبناء مجده الخاص بشراكة معهم.

طقوس منقرضة لحلاقة الأثرياء.. أدوات ذهبية ومحارم من الحج
ربما كان الملك الراحل محمد الخامس، آخر السلاطين العلويين الذين عايشوا الطقوس القديمة للحلاقة، قبل أن تدخل الآلات الكهربائية إلى صالونات الحلاقين، مغاربة وأجانب. فعندما كان الملك الراحل محمد الخامس في عقده الثالث، كان ابنه الحسن الثاني صغير السن، لكن مربيته الفرنسية استقدمت له حلاقا فرنسيا معروفا في الرباط، كان يقدم خدماته للأعيان الفرنسيين والأسر الفرنسية المستقرة في الرباط. وكان هذا الحلاق يأتي إلى القصر الملكي بانتظام حاملا معه أدوات الحلاقة في حقيبة جلدية أنيقة، ويقدم خدماته لولي العهد تحديدا ويغادر القصر.
بينما كان السلطان محمد الخامس محافظا على حلاقه القديم، الذي ورثه عن والده المولى يوسف إلى حدود بداية الأربعينات. وهي الفترة التي توفي فيها الحلاق، ليتم جلب حلاق آخر من مكناس لكي يكون في خدمة السلطان، إلا أنه لم يعمر طويلا في «منصبه» بسبب المرض.
كان هذا تحديدا في فترة ما قبل المنفى. حيث كان القصر الملكي منغلقا تماما عن محيطه، ورغم توافد الضيوف الأجانب على القصر، إلا أن الجناح الخاص بالملك الراحل محمد الخامس كان يُسيّر على الطريقة المخزنية القديمة، التي أكد المؤرخ عبد الرحمان بن زيدان أن الملك الراحل محمد الخامس كان يُقدسها كثيرا. وهو ما أكده أيضا المؤرخ عبد الكريم الفيلالي الذي قضى طفولته داخل القصر الملكي، وبعد عودة الملك الراحل من المنفى كلفه بالإشراف على أرشيف القصر.
هؤلاء، رغم أنهم انتقلوا جميعا إلى دار البقاء، إلا أنهم من القلائل الذين تمكنوا من ترتيب أرشيف المخزن ووقفوا على التقاليد المخزنية المرعية في جوانب كثيرة من حياة السلاطين العلويين، ودونوا بعضها على الأقل.
من بين ما تم تدوينه أن السلاطين العلويين كانوا يستعملون أثناء الحلاقة، خصوصا مع المولى محمد الرابع وابنه المولى الحسن الأول، ثم مع المولى يوسف، محارم بيضاء يتم جلبها خصيصا من مكة خلال موسم الحج كل سنة، ويتكلف مخزني واحد بالحفاظ عليها طيلة السنة، حيث توضع في صندوق خاص. أما أدوات الحلاقة فكانت عبارة إما عن هدايا تلقاها القصر من أصدقاء السلاطين الأجانب، وإما أن تعهد صناعتها لحرفيين مغاربة كانوا معروفين بالتعامل مع القصر الملكي ويشرفون على صناعة المفاتيح وكل الأدوات الحديدية، بما فيها أدوات الحلاقة التي كانت تصنع خصيصا من الفضة أو الذهب في بعض الحالات النادرة، ولا تتم صناعة نظائر لها، حتى يستفرد الحرفي الذي صنعها بفخر الحصول على الرضا الملكي عن تلك الأدوات.

وزير خارجية يمنح حلاقه منزلا في قلب الأحباس ليكون قريبا منه
ربما كان المؤرخون والكُتاب، مغاربة وأجانب، أكثر من سلط الضوء على السنوات «السوداء» في تاريخ المغرب، وتحدثوا عن الجانب الغرائبي فيها.
كان الوزراء المغاربة شخصيات بعيدة عن مجالس المؤرخين. ربما لم يكن أغلبهم يفضلون مجالسة أهل العلم، بقدر ما كانوا يفضلون مجالسة النافذين في دواليب المخزن والعارفين بأسراره والمقربين من الملوك. بينما كان المؤرخون يعكفون على مكاتبهم التي كانوا يجلسون إليها على الحصير، في أجواء متواضعة للغاية، وإليهم يُنسب اليوم فضل تدوين تاريخ المغرب وبعض الأسرار المرتبطة به. لقد كانت مهمتهم التوثيقية تجعل منهم «معتزلة» لواقع الحياة التي كان يعيشها الأثرياء والوزراء المغاربة، خصوصا وأن أغلب المؤرخين المعروفين في التاريخ المغربي كانوا يشتغلون مجرد كُتاب ضمن لائحة كتاب آخرين، في دواوين سفراء مغاربة ووزراء أيضا. وهو ما كان يجعل حظوظهم لمصادقة رجال الدولة الكبار نادرة.
أما بالنسبة إلى ضيوف المغرب الأجانب، حتى لو كانوا مجرد مغامرين يبحثون عن مغامرات جديدة في بلد لم يكونوا يعرفون عنه أي شيء، مثل المغرب خلال القرن الماضي، فإنه يكون من السهل عليهم لقاء وزراء الدولة ومجالستهم. أما إذا كانوا صحفيين فإنهم كانوا يصلون بسهولة بالغة إلى القصر الملكي ويجالسون كبار المقربين من السلطان شخصيا، مثل ما حدث مع عدد من الصحفيين الذين كانوا موفدين لصحف أوربية شهيرة بعضها لا يزال يصدر إلى اليوم.
أحد هؤلاء الصحفيين، عن مجلة أسكتلندية كانت تصدر أسبوعيا وتعنى بأخبار العالم الغريبة، اسمه «لينو مارتن» زار المغرب سنة 1897، غير أنه لم يمكث بيننا إلا أسبوعين فقط، كانا كافيين بالنسبة إليه لكي يجلس مع وزير الخارجية المغربي، وكان اسمه الوزير عبد الكريم بن سليمان. يقول لينو مارتن الذي نشر مقالا قصيرا عن لقائه بوزير الخارجية المغربي، إنه تفاجأ لأن وزير الخارجية في المغرب لم يكن يعرف أي لغة أخرى غير اللغة العربية، وأنه احتاج إلى مترجم هو القايد ماكلين (وهو أسكتلندي أيضا استقر بالمغرب وتعلم اللغة العربية في آخر أيام المولى الحسن الأول، وأصبح مغربيا برتبة قايد، وعاش سنوات طويلة داخل القصر الملكي ومات في طنجة) لكي يترجم له كلام وزير الخارجية حتى يكتب المقال.
كان وزير الخارجية المغربي، حسب «مارتن»، رجلا بشوشا لكنه كان شديد الاحتياط من الأجانب، وبدا أيضا أنه كان يرحب بلقاءات مع الصحفيين بحضور صديقه القايد ماكلين، الذي كان يفهم عقلية المغاربة جيدا.
لقد كان وزير الخارجية المغربي رجلا شديد الثراء ولديه شعبية واسعة جدا في فاس، بحكم أنه كان يقيم كل يوم خميس مأدبة فخمة لكل فقراء المدينة، الذين كانوا ينتظرون أمام منزله مع أولى ساعات الصباح لكي يحصلوا على نصيبهم من الطعام، ويبقون اليوم كله إلى المساء وهم ينتظرون بقية الوجبات التي تخرج من بيت الوزير.
ومن «الغرائبيات» التي أدهشت الصحفي الأسكتلندي أن القايد ماكلين أكد له في نهاية اللقاء كما يقول، أن وزير الخارجية المغربي كان مهتما بهندامه بشكل لا يصدق وأنه منح حلاقه الخاص منزلا فخما من الأملاك المخزنية فقط لكي يضمن وجوده بقربه، كلما احتاجه إلى تشذيب لحيته أو حلاقة رأسه على الطريقة القديمة. وهكذا كان الحلاق الذي كان فقيرا في الأصل قبل أن يختاره الوزير من أحد أسواق فاس لكي يكون حلاقه الخاص، جارا لكبار وزراء الدولة وموظفي المخزن الكبار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى