الرأي

حلب تحترق

حلب تحترق، هذا ما تناقلته وسائل الإعلام مع ربيع عام 2016م، ويبدو أن الروسي بوطين يتأهب لتلقين السوريين الدرس الشيشاني، ولكن من هو بوطين هذا؟
في عام 1989 م انهار جدار برلين على غير ميعاد كما في قصة بيت العنكبوت. هرع الستازي (رجال المخابرات) بقيادة بوطين سيء الذكر لإتلاف وثائق المخابرات. هناك طريقة فظيعة لإتلاف الوثائق في ماكينات خاصة، تحول الصفحات إلى أشلاء، تحتاج إلى جهابذة المتخصصين كي يجمعوها ويفسروها. وحين تم اجتياح مكاتبهم من قبل رجال ألمانيا الاتحادية عثروا على كنز من المعلومات في 15000 كيس من أوراق مقطعة. جمعت الأكياس ودققت ثم حفظت في خزائن خاصة، وقام فريق من المتخصصين بعمل فريد يقوم على إدخال كل قطعة إلى السكانر فتصور؛ ثم يقوم الكمبيوتر وفق برامج خاصة بنسبة القطعة إلى أية ورقة هي؟ إلى أي صفحة تعود؟ وفي أي قضية وملف؟
هنا شعر المتفرغون لهذا العمل أنه ليس بالأمر السهل والسريع أبدا. وظفت حكومة ألمانيا للمشروع عشرات الموظفين الأذكياء الفعالين. وخلال ثمان سنوات من العمل الدؤوب وبكلفة فاقت خمسة ملايين يورو أمكن لفريق العمل أن يصل إلى نتيجة ليست بالدسامة التي توقعوها من كنز الملفات هذه؛ فقد أمكن من أكوام الأوراق (دجتلة) 23 كيسا فقط، أما صف الحروف والأسطر فقد كان أزهد وأضعف. هنا وقفت الحكومة الألمانية أمام سؤال حرج بين اتساع الوقت والجهد الهائل وجبل من المال لكشف اللثام عن مخلفات بوطين سيد الستازي الألماني (Stasi) جهاز المخابرات السابق في ما كانت تسمى جمهورية ألمانيا الديموقراطية.
إذا استمرت عملية الأحاجي (Puzzel) على هذه الوتيرة فهي تعني أن أمامهم 9375 عاما من العمل المجهد ما لم يهتدوا إلى طرائق جديدة في الكمبيوتر.
أنا شخصيا لي تجربة مريرة معها حين أخطأت طريقي إلى برلين فدخلت الشرقية بدل الغربية، وهناك اكتشفت معنى الأنظمة الشمولية. كنت محظوظا إذ لم أعتقل مع زوجتي وابنتي، دفعوني في النهاية غرامة أديتها بالمارك الألماني الغربي وليس الشرقي التافه. وحين طلبت منهم أن يدلوني على طريق الخروج من محبسهم ترددوا؛ فما أسرعهم في العقوبة وما أبطأهم بالعفو.
لمزيد من فهم خطة بوطين في سوريا علينا مراجعة سيرته الذاتية كما روت السيدة بولينا شيريبزوفا (Polina Scherebzowa) المختبئة حاليا في فنلندا مع زوجها في مكان مجهول؛ وسوف ينشر لها كتاب حول الحرب التي خاضها بوطين في الشيشان، وتنبع أهمية الكتاب من خلفية سره القذر (حرب الشيشان هي السر القذر لفلاديمير بوطين، ومن هذه الحرب جاء الرئيس الروسي إلى السلطة، وعلى أشلاء عشرات الآلاف من الضحايا بنى نظامه).
السيدة (شيريبزوفا) كانت طفلة تؤرخ للأحداث يومها، ويعتبر كتابها الذي سوف يطبع بعنوان (يوميات بولينا) منقولا عن الروسية بقلم أولاف كول (Olaf Kuehl)، في مؤسسة روفولت ـ برلين في 576 صفحة (Polina Scherebzowa – Polinas Tagebuch) الأشد إثارة وكشفا عن أبعاد الجريمة بعد كتاب يوميات آن فرانك اليهودية في ظل النظام النازي.
هذه اليومات التي سطرتها هذه الطفلة تؤرخ لحرب هي الأعنف منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، وتحيي هذه المذكرات يوميات آن فرانك (Anne Frank) الهولندية، تلك الطفلة التي راج كتابها جدا، يروي حلكات الظلمات في العصر النازي، حين اختبأت العائلة في بيت مهجور في هولندا، إلى أن تم الإبلاغ عنهم من جاسوس هولندي، أوصلهم إلى يد الجستابو؛ فرحلة إلى محرقة آوسشفيتس؛ فالنهاية.
كتاب فواز الحداد الحموي المسيحي يخلد أيضا للنظام البعثي الفاشي يوميات تم فيها حرق الحمويين مثل النازيين أيام أحداث حماة عام 1982م.
لحسن الحظ نجت مذكرات الطفلة فرانك؛ لتسجل تلك الحقبة الجهنمية من تاريخ الكائن النحس المنحط ـ في جزء منه ـ المسمى بالإنسان؟
التشابه بين مذكرات بولينا وآن فرانك هو مقدار حجم الجريمة، بين جيل مجرم يتوزع اسمه بين هتلر وستالين وثان اسمه بوطين؟ مما يستدعي بحق أن تسمى مذكرات بولينا بآن فرانك الشيشانية.
وحتى نفهم ما يحدث في سوريا في خريف عام 2015 م، وما حدث في تسعينيات القرن المنصرم، حين بدأ (بوريس يلتسين) حربه الأولى على الشيشان، لينتهي بهزيمة ساحقة مع تتبع فلوله، وحصيلة من القتلى تجاوزت ثمانين ألف جثة، ليأتي المجرم (بوطين) ويقوم بحرب جديدة من نوع مختلف، وهي التي صرح عنها في تجاربه الجديدة على الأرض السورية، أنه سوف يستعمل أسلحة متطورة جديدة!
هذا ما فعله بوطين في الشيشان حسب مذكرات بولينا الشيشانية، التي أصيبت بقذيفة خلفت 16 شظية في بدنها. قالت السيدة: قامت خطة بوطين في حرب الشيشان ـ وهو ما يفعله في سوريا في خريف 2015 م ـ على سياسة الأرض المحروقة. تقسيم المناطق إلى مربعات، يتم هدمها بالكامل، ثم دخول قوات إجرامية خاصة تمشط المنطقة فلا تبقي ولا تذر.
الفرق بين سوريا والشيشان أن الشباب تدربوا بعد براميل الكيماوي كفاية ليعرفوا طبيعة الحرب التي يشنها المجرم بشار ومن خلفه معلمه بوطين. كانت روسيا إلى حين تعمل خلف الستار. والآن جاءت بقضها وقضيضها لإنقاذ نيرون الشام؟
هذا يذكرني بالآية التي حملها رسول الرحمة (ص) إلى قريش حين قال: فأنذرتكم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود؟ مدوا أيديهم إلى فمه وقالوا كفى ناشدناك الرحم.
ما هي هذه الآيات المفزعات في ضوء الهجوم والاحتلال الروسي؟ وأين مكانها من قانون التاريخ؟ ـ كما كان غاندي يكررـ أن قانون التاريخ هو للحق وليس الطغيان، وإلا كان التاريخ عبثا، والكون فوضى ولن يصمد. فسنة الله لا تجد طريقها قط للتغيير أو التبديل والتحويل. والله يمسك السموات والأرض أن تزولا.
قالت عاد للنبي من أشد منا قوة؟ وبوطين وخبيره من موسكو يكررون نفس المقولة. وهم يعلمون علم اليقين أن عهد القوة والتسلح والمغامرات العسكرية وبطولات الفتوحات قد ولى، وأن تجاربهم على الفئران السورية سوف تقودهم إلى دفع الثمن. ولات حين مناص. هم من العصر القديم في مفاهيم الحرب كما قال غورباتشوف الروسي العاقل، ولكنهم يعرفون تماما أن مصيدة الاصطدام بين القوى العظمى تعني نهاية العالم ـ لحسن الحظ ـ ولذا نسقوا بينهم بحذر طالما كان الدم السوري رخيصا ـ الآن وليس لاحقا فهو سيلون العالم جميعا باللون الأحمر القاني.
نحن نعلم أن نهاية الامبراطورية البريطانية كانت في أفغانستان، وأن الاتحاد السوفييتي لم ينهزم فقط؛ بل انفلع وتشظى، وأصبح في ذمة التاريخ، وهو يملك أسلحة تدمير الكون والأسلحة المتطورة وسوخوي 34.
يقول ويلز المؤرخ البريطاني أن من يمسك الشعوب بيد من حديد يحول تلك الشعوب إلى حديد.
في القرآن آية معبرة: سيهزم الجمع ويولون الدبر.
أمريكا حاولت تنصيب قرظاي في أفغانستان بدون فائدة، وروسيا تحاول تثبيت البراميلي المشلول بعكاكيز، ولن يفلح الساحر حيث أتى.
خلاصة القول كما قالت بولينا شيريبزوفا أن القوة والحرب والأذى لم تزد المشكلة إلا تعقيدا، ولا اقترابا من الحل إلا بعدا عنه.
في القرآن تعبير جميل: وهم ينهون عنه وينأون عنه.
الحرب سوف تضع أوزارها في النهاية مهما طالت. والحرب مؤسسة مفلسة شبعت موتا، خاضها من خاضها، محطمة أسطورة برومثيوس وهرقليطس. والحرب إفلاس أخلاقي، والحرب جريمة وجنون، خاضها من خاضها، وهو اعتراف بالعجز الإنساني وسلوك سبيل الشيطان: النار.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى