الرأي

حول الموت والحياة (1 ـ 2).. جراح الأعصاب هنري مارش يروي ذكرياته

ما دفعني لقراءة مذكرات هذا الرجل (جراح الأعصاب البريطاني هنري مارش) بتمعن هو القصة التي روتها لي ابنتي مريم في نيويورك، عن رجل جاء ليرى حفيده، وكانت هذه الزيارة على موعد مختلف، فقد أصيب فجأة بنوبة صرع عصبية ألقته أرضا، وأغمي عليه، وارتج، وطفا الزبد على فمه.
كان التشخيص ورما دماغيا وكبيرا. أدخل العملية وتم استئصال الورم، وتبين أنه من النوع الخبيث (Glioblastoma) ليفقد نصف الساحة البصرية اليسرى بعد الجراحة، وليخضع للمعالجة الكيميائية بعد الجراحة وما زال، ولكن الإنذار (Prognosis) في مثل هذه الأورام غير الحميدة إنه إعلان بأن العمر انقضى، والموت كشر عن أنيابه ودنا، ومما أتذكر قائد سلاح الجو الصهيوني (آل غور) الذي حطم سلاح الجو العربي في هزيمة عام 1967م في الكارثة الناصرية، حين اكتشف أنه مصاب بسرطان دماغ، أمسك بالمسدس وأفرغه في رأسه وانتحر؛ فلم ينتظر جراحة ومعالجة كيمياء.
وبين أيدينا قصة جراح أعصاب ومخ العبرة عن طبيعة هذا العمل؛ فبعد رحلة أربعين عاما في شق الجماجم، واستئصال أورام الدماغ الحميدة والقبيحة، توقف جراح الأعصاب والمخ الدكتور (هنري مارش) (Henry Marsh) ليودع خلاصة تجاربه في كتابه (حول الموت والحياة)، وصدر بالألمانية بعنوان (Um Leben und Tod) (مؤسسة  DVAبـ352 صفحة وسعر 19و99 يورو)، اعتبره البعض أنه من أفضل عشرة كتب استقطبت الرأي العام البريطاني، مما دفع مجلة (دير شبيغل Der Spiegel) الألمانية واسعة الانتشار، إلى أن تجري معه حوارا مطولا حول كتابه وخبراته، وظهر الجراح مع مريضه (لورانس Laurence) الذي أرهق في عمليته من أجل استئصال ورم دماغي؟ وعلقت عليه بجملة (ما هو ذلك الشعور أن يشق الذات الإنسانية المكومة في الدماغ، أو الحياة بقرب من يعانون مالا تتحمله الجبال؟).
بلغ الجراح مارش في عام 2015 سنه التقاعدي 65 سنة، فهو يودع الطب ويتجه إلى التنفس خارج قاعات العمليات وظروف التوتر ما بين قيح ودم وألم وورم؟
ولد الرجل عام 1950 م ويعتبر شاذا إلى حد ما عن سير بقية زملائه من الأطباء؛ فقد درس الفلسفة والسياسة والاقتصاد في جامعة أوكسفورد (Oxford)، ويعتبر نفسه مثقفا، قبل أن يحج إلى معبد الجراحة؟
عرف عن الرجل أنه أجرى بعضا من عملياته بتخدير موضعي؛ فالدماغ مركز الأحاسيس ولكن لا يحس؛ فلو شققنا الدماغ شقا ما أحس، في حين أن قرصة بعوضة في قدم أحدنا تجعلنا نحك بشراهة ليندفع الفطر الجلدي لاحقا؟
كما ظهر جانبه الإنساني حين شارك في تخفيف آلام المصابين في (أوكرانيا) بحرب بوتين المجرم، وتم عرض أعمال الرجل في فيلم وثائقي عرضته قناة (BBC).
اشتغل الرجل في مشفى (سانت جورج) في لندن، وكتب إعلانا صغيرا في مكتبه يقول فيه: هنا قسم طبي وليس ساحة مرور؟ واحتفل الرجل بتقاعده في الأول من ماي من عام 2015م.
الرجل يكره جو المشافي، وصبر فيها على مضض؛ ليكتشف مع اتساع معرفته بالعلوم العصبية، كم كان جراحو الأعصاب أفظاظا في التعامل مع أنبل مادة في الكون: الجملة العصبية المركزية، المخ.
أجرى الرجل 800 عملية على الدماغ، ويقتبس من الجراح الفرنسي المشهور (رينيه ليريش) (Rene Leriche) قوله: إن الجراح يحمل معه مقبرة تزداد اتساعا، كما أن الجانب المظلم من الجراحات يظهر أوضح مع تقدم العمر ونضج الجراح، ويدرك أنه أيضا يخضع للمرض كما هو الحال في مرضاه، الذين كان ينظر إليهم من شاطئ الوادي الآخر، حيث الصحة والمتعة والشباب والقوة.
يتذكر جراح الأعصاب البريطاني (هنري مارش) أجواء المشافي بكثير من الأسى؟ فيقول: إنها تذكر بالمعتقلات، تنزع ثيابك، تلبس أثوابا لا تستر، تحمل رقما، تبقى حبيسا في غرفة، ثم لا تنسى مزعجات أخرى مثل فحص الشرج، حيث يجول الطبيب بأصبعه في أحشائك. قد تكون هذه للأطباء والعاملين الفنيين مريحة فهم يريدون مريضا مستسلما، لا اعتراض، لا مقاومة، خائفا، جاهزا لأي فحص. يقول مارش ما نريده من المريض استعداده للفحص؛ شرجه للأصبع، فمه للفتح، مستعدا هادئا مستسلما، ويشير الرجل إلى أجواء الطب الألماني أن فيها قدرا من الديكتاتورية؟
يروي الجراح (مارش) ما دفعه إلى اختيار طريق الطب أنه تعرض لأزمة حب عنيفة ونكسة عاطفية، مما دفعه إلى الهرب إلى الجبال، والعمل في مقالع الحجارة، عسى أن يجد الهدوء في نفسه، ويتذكر في هذا فيلم ممثل هوليوود، جاك نيكلسون (Jack Nicholson) في فيلم «الإنسان يبحث عن الذات».
نشأ الرجل في عائلة أرستقراطية، ودرس في أفضل المدارس، وتعلم اللاتينية والإغريقية القديمة، مع هذا كان الرجل يعشق عمل اليدين، وهي في الجراحة كذلك، وحين اتخذ قرار الطب جمع المال من زوجته الأولى ووالده، وأضاف إليه إعانة من الدولة، حتى يتمكن من إكمال مهمته فيتخرج طبيبا، حيث أنهى دراسته للطب في عام 1979 وتخرج. ولكن الرجل يعلق على وسط الجراحين أنه بغيض، وأن القليل من الجراحين من يتحلى بروح طيبة، أما الأكثرية فلا خير فيهم؟ بتعبيره (لم أطقهم).
اتهم الجراحين بأنهم غير متزنين، ولم يشاطرهم رأيهم في الحياة، وكانت زوجته تتضايق منه حين يريد أن يضيف نفسه إلى معشر المثقفين، فالرجل كره أجواء الجراحة مع كل براعته، بما فيها من روائح المشافي والمرضى بين عفوا براز وبول وقيح ودم وروائح كريهة.
روى الرجل تعجبه من جراحة الأعصاب خاصة، كيف يقص المرء ويقطع، في المادة التي يتدفق منها الوعي والأفكار والمشاعر؟ قال إنه أمر كان يصدمني ولكن لابد منه، فهنا ممرات الوعي وأمكنة الغرائز، حيث جدلية الروح والمادة في ثنائية البدن والنفس؟
مما يتذكر من آخر العمليات التي عملها، تلك التي أجراها للمريض لورانس، حيث دخل على مكان لعين، حيث تلتقي قاعدة الدماغ مع خروج النخاع إلى الظهر. قال عنها كانت عملية قاسية ممضَة صعبة في مكانها، حيث على الجراح أن يشتغل على ثقب بمقدار خمسة سنتيمترات وبالمجهر وكانت نازفة.
يقول دامت خمس ساعات كأنها خمسة قرون، وفي إحدى المراحل والدم يتدفق قال في نفسه لقد تعبت يجب أن أتوقف؟ ولكن هل ذلك ممكن حتى مع ضميره؟
ويخلص الرجل إلى أن جراحة القلب أيضا خطيرة، وكل الجراحات، ولكن جراحة الأعصاب بوجه خاص تترك بصماتها عجزا وخرسا وشللا وقعودا. جراح القلب إن فشلت عمليته مات مريضه، أما في جراحة الأعصاب فالموت أرحم من العاهة.
يروي الرجل عن مشاعره أنه حين كان شابا كانت مشاعر الانتصار تستولي عليه مع نجاح العملية، أما مع تقدم السن فإن زادت فهي مشاعر الارتياح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى