الرأي

خلل في بنيات الترشح

بلغة الأرقام أخفقت كافة الأحزاب السياسية في تقديم عدد كاف من الترشيحات يشمل جميع الدوائر الانتخابية. ومن أصل أزيد من 31 ألف مقعد بقيت نسبة تفوق 12 ألف دائرة بلا تغطية بالنسبة للأحزاب التي قدمت أكبر عدد من المترشحين. أما الأحزاب الصغيرة فانحدرت تغطيتها إلى أقل من 0.15. ولم تتجاوز لدى غير المنتسبين 0.94.
معنى ذلك أن أي حزب سياسي لم يقدر على تأمين حضوره في كافة الدوائر، إما بسبب توزع الخارطة إلى مناطق نائية وقرى ودواوير صغيرة، أو جراء غياب سياسي له أكثر من خلفية. بالنظر إلى كون مظاهر النفوذ السياسي تركز على المدن والحواضر الكبرى. وفي ذلك دليل آخر على قصور الأداء الحزبي في أن يتمدد إلى جميع الدوائر، لأن من لا يقدر على تقديم مترشحين إلى دوائر معينة لا يمكن توقع أن يكون له حضور فيها. وتكاد كافة الأحزاب تتشابه في هذا المنحى، بما في ذلك الهيآت التي مافتئت تتحدث عن إيلاء اهتمام أكبر بالعالم القروي والأحياء الهامشية في الحواضر.
لدى مقارنة نسبة الحضور الحزبي في الدوائر الكبرى، يبدو جليا أن جماعات قروية عديدة، تنقصها الموارد والإمكانيات لم تحظ بالتغطية على مستوى الترشيحات، وهذه واحدة من بين الأسباب التي أدت إلى استمرار سياسة العزلة والتهميش، أو في أقل تقدير تكريس نوع من التفاوت في درجات الاهتمام. لأن ثمة جماعات بموارد ضئيلة لا تغري بالمنافسات. مع أن الأرجح أن هذه النقاط هي التي ينبغي أن تنال الاهتمام الأكبر لإخراجها من دائرة الهشاشة.
إلى وقت غير بعيد، كان المزاج السياسي يقاس بدرجات الصراع وتأمين الحضور في المدن، وكان الحزب الذي يقدر على تأمين حضور لافت في المدن الكبرى يعتبر الأكثر نفوذا. إلا أن التطورات التي طرأت على بنيات المجتمع أبانت عن حدوث نقلة نوعية في الوعي الجماعي في المدن والبوادي والمراكز الحضرية الصغيرة على حد سواء. وإذا كانت الاستحقاقات الانتخابية تأتي في أعقاب صدور أرقام عن التركيبة السكانية للبلاد، من حيث التوزيع الديمغرافي ومستويات المعيش والخصاص الناتج عن الافتقار إلى التجهيزات الأساسية، فإن هذا العنصر كان يجب أن يشكل حافزا أمام الهيئات السياسية لإعادة التفكير في أساليب انتشار مترشحيها وحضورها.
لا يمكن في ضوء هذه المقاربة إغفال نسبة الناخبين المحليين في قوائم الاقتراع، فهي تؤشر إلى درجة الانخراط في العملية السياسية، بصرف النظر عن اتجاهات التصويت أو العزوف. وإن كان الراجح أن العزوف ظاهرة سلبية، لها أسبابها وخلفياتها التي لا يمكن النظر إليها بمعزل عن نتائج الممارسات التي أهملت البعد التنموي الحقيقي، من وراء الديمقراطية المحلية التي تعتبر أنجع أداة في التخفيف من حدة الفوارق، حتى استخدمت وفق أهدافها ومنطلقاتها المبدئية.
أبعد من الإشكاليات التي يطرحها قصور الفاعلين السياسيين عن تغطية مجمل الخارطة الانتخابية، أن مفهوم التضامن بين الجماعات لم يتبلور على نطاق أوسع، لأن ترك بعض الجماعات الترابية من دون تقديم ترشيحات، إن كان يعزى أحيانا إلى أنواع من الترضيات بين المترشحين المحتملين، فإن النظرة إلى الجماعات محدودة الموارد لا يجب أن تتوقف عند حرفية الخصاص، بل أن تتجه نحو البحث عن موارد، والأمر يتعلق ببرنامج استعجالي للنهوض بالأوضاع في الأرياف، كونها أكثر معاناة من غياب المرافق والخدمات.
لا خلاف في أن الاستثمارات تعتبر في مقدمة الحواجز التي تنقل المجال الذي يعاني الخصاص إلى مستوى آخر، إلا أن الاستثمارات المحلية والأجنبية لا يمكنها الإقبال على أي نوع من المغامرة، إلا في ضوء توفر المناطق المرشحة على تجهيزات وحوافز، تأتي في مقدمتها المواصلات ومرافق الخدمات الاجتماعية في التعليم والصحة والمنشآت التي تكفل إدماج الشباب والنساء والأطفال في النسيج الانتخابي، إضافة إلى تركيز الجهود على جلب الماء والكهرباء وتقريب الإدارة إلى المواطنين.
تأسيسا على استقراء أرقام الترشيحات، لا يستطيع أي حزب أن يتحدث عن نفوذ كبير في الخارطة الجماعية، أقرب إلى ذلك أن نسبة التغطية لم تكن شاملة وتدنت لدى بعض الهيئات إلى مراتب ضئيلة، ما يفرض معاودة النظر في معايير العمل الحزبي، فقد ثبت أن تزايد أعداد الأحزاب المتنافسة لا يعني بالضرورة أن التجربة السياسية متطورة، وإنما يعتريها المزيد من الخلل، خصوصا إذا وضعنا في الاعتبار الأجواء التي تحيط بمنح تزكيات الترشح، وبالتالي فإن العمل الحزبي ينبغي أن يتجه لتوسيع أفقه ليشمل أكبر مساحات ممكنة.
على عكس هذا الخلل الذي يتعين الإقرار به، يمكن ملاحظة أن المترشح لانتخابات الجهات اتسم بتوزيع متوازن، لناحية أن غالبية الأحزاب ذات النفوذ الوازن في الغالبية والمعارضة على حد سواء قدمت ترشيحات تغطي كافة الدوائر. ولئن كان هذا التطور يعكس أهمية الخيار الجهوي، فإنه يفرض نوعا من الاحتراز، كي لا تتحول الجهات إلى قلاع ومراكز نفوذ، مع أنها في الأصل أداة تنمية بأبعاد جهوية، تتوخى التكامل والتضامن وإقامة أقطاب اقتصادية وإنتاجية، وليس مراكز نفوذ تزاحم أو تناقض التوجهات العامة لسياسة التنمية التي حان الوقت لمعاودة إقرار أسبقيات جديدة لها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى