الرئيسية

دانييل هارمس- رائد العبث واللامعقول

ترجمة وتقديم: سعيد الباز

الروسي دانييل هارمس
(1905-1942) Daniil Harms رائد مسرح العبث واللامعقول، الشاعر والمسرحي وكاتب قصص الأطفال والقصص القصيرة جدّا وفق التقليد الروسي، وخاصة لدى كاتب القصّة العظيم تشيخوف. أسس رفقة كتاب روس داخل اتحاد كتّاب الروس جماعة تحمل اسم «اتحاد الفنّ الحقيقي Oberiu» هدفها خلق حركة أدبية وفنية طليعية تسعى إلى تحويل الحياة الخاصّة إلى حقيقة فنّية نحو إدراك جديد للعالم ولفنّ جديد، فالشيء الملموس على حدّ قولها ما أن يتخلّص من القشور الأدبية المبتذلة حتّى يصبح ملكا للفنّ. لكنّ الحزب الشيوعي حاربه أيام ستالين ووصفه بالعدو الطبقي ثم اعتقله وعرّضه للمنفى الداخلي.
أثناء حصار لينينغراد، وضع هارمس في مستشفى للأمراض العقلية بدعوى انحرافه الإيديولوجي وغرابة أطواره حيث توفي متأثرا بسوء التغذية وقساوة البرد. اليوم تتم إعادة الاعتبار إليه كأحد كبار كتاب القصة القصيرة جدا ذات المنحى العبثي، بعد سنوات طويلة من منع تداول كتبه التي ظلت مخطوطة يتبادلها الناس في الاتحاد السوفياتي السابق سرا، لم يسمح بطبع كتبه إلّا في أواسط الخمسينات من القرن الماضي، خصوصا قصصه الموجهة للأطفال.
في نهاية السبعينات، بدأ هارمس نشر أعماله في روسيا وترجمتها إلى اللغات الأوروبية، ليكتشف العالم أنّ دانييل هارمس رائد تيار العبث واللامعقول في الأدب قبل صامويل بيكيت أو يوجين يونسكو.
في ما يلي منتخبات من أشهر قصصه القصيرة المفعمة بالغرابة والعبث دون أن تخلو من روح انتقادية عالية.

بخصوص بوشكين
من الصعب أن تقول شيئا عن بوشكين لمن لا يعرف أيّ شيء عنه. بوشكين شاعر عظيم. نابليون أقلّ عظمة من بوشكين. الإسكندر الأوّل والثاني والثالث ليسوا سوى فقاعات صابون مقارنة ببوشكين. الجميع ليس سوى فقاعة صابون مقارنة ببوشكين. لكن مقارنة بغوغول بوشكين عبارة عن فقاعة صابون.
لذلك بدلا من بوشكين أحدثكم عن غوغول. لكن غوغول عظيم إلى درجة أنّه من المستحيل أن نقول عنه شيئا. لهذا السبب سأحدثكم مع ذلك عن بوشكين. الحديث عن غوغول بعد بوشكين يعدّ أمرا فيه قليل من الإهانة. أمّا الحديث عن غوغول فمستحيل، لهذا السبب أنا أفضل ألّا أقول شيئا على الإطلاق.
*ألكسندر بوشكين أعظم شعراء روسيا.
*نيكولاي غوغول: مسرحي روسي وكاتب قصة كان له أثر بالغ على الأدب الروسي والعالمي، قال عنه الروائي الروسي دوستفسكي: «كلنا خرجنا من معطف غوغول» ويقصد قصته الشهيرة «المعطف».
الرجل الأصهب
كان ثمّة رجل ذو شعر أصهب، لم تكن له عينان ولا أذنان، ولم يكن له شعر أيضا. وسمّي بالرجل الأصهب على سبيل المجاز. لم تكن له قدرة على الكلام لأنّه لم يكن له فم. ولم يكن له أنف، أيضا لم تكن له ساق ولا ذراع. ولم تكن له معدة ولا ظهر، ولا عمود فقري، لم تكن له أحشاء. لا شيء ثمّة، بحيث بات من الصعب أن نفهم عمّن نتكلم. لذا، سيكون من الأفضل ألّا نتكلّم عنه بعد الآن.

حادثة
في أحد الأيام أصيب «أورلوف» بالتخمة من فرط أكله للعدس الثقيل. وعندما علم «كريلوف» بذلك مات أيضا. أمّا «سبيريدونوف» فمات ميتة طبيعية، وزوجته سقطت من بوفيه المطبخ فماتت، أبناؤه غرقوا في بركة، جدته ثملت فتاهت في الطرقات… «كروغلوف» أكمل رسم فتاة تحمل سوطا فمات. «فيريخريستوف» تسلم حوالة تلغرافية بأربعمائة روبل* فأصيب بالعظمة وفصل عن الخدمة.
أناس مع ذلك طيبون، ومع ذلك لا يحسنون الوقوف على أقدام راسخة.
*الروبل عملة روسية.

لقاء
ذات يوم، التقى رجل في طريقه إلى العمل برجل آخر كان في طريقه إلى بيته، بعد أن اشترى رغيفا من الخبز البولوني. هذا كلّ ما في الأمر!

رجل
غادر رجل داره
يحمل عصا، ويتأبط جرابا
وانطلق يغذ السير
في طريقه لا يلوي على شيء
ولا ينظر إلى الوراء أبدا
كان يمضي دائما إلى الأمام،
كان يسير في خط مستقيم،
لم ينم أبدا
ولم يشرب أبدا،
لم يشرب، ولم ينم، ولم يأكل،
ومرّ بغابة كانت مظلمة كظلام الليل،
فدخل فيها مباشرة،
واختفى عن الأنظار،
فاذا تصادف والتقيت هذا الرجل
من فضلك أخبرنا بذلك
في أسرع ما يمكن.
العجائز اللّواتي يتساقطن
عجوز من فرط فضولها والانحناء الكثير من النافذة سقطت وتحطّمت على الأرض.
عجوز أخرى انحنت من النافذة من أجل رؤيتها، لكن من فرط الفضول فقدت توازنها وتحطمت على الأرض.
ثم عجوز ثالثة سقطت من النافذة ورابعة وخامسة.
عندما تحطمت السادسة على الأرض سئمت من مشاهدتهن، فذهبت إلى سوق (مالتسيفسكي) حيث، حسب ما يقال،إنّ شخصا منح شالا مطرّزا لرجل أعمى.

حالة قتل جماعي
ألقى «بيتروف» ممتطيا صهوة حصان خطبة أمام جمهور ذكر فيها تبعات بناء ناطحة سحاب أمريكية في المكان الذي توجد فيها حاليا الحديقة العمومية. أنصت إليه الجمهور الذي يبدو ظاهريا مقتنعا بكلامه. سجّل «بيتروف» في مذكرته بعض الكلمات. ظهر بين الحشد رجل ذو قامة متوسطة وسأله ماذا يكتب في مذكرته. أجابه «بيتروف» بأنّ هذا الأمر لا يهم أحدا غيره. الرجل ذو القامة المتوسطة أصرّ على سؤاله، فتحول النقاش بينهما إلى عراك. الحشد أخذ صف الموالاة بجانب الرجل ذي القامة المتوسطة، ولينقذ حياته حفّز «بيتروف» حصانه بالمهماز واختفى في زاوية من الشارع. هاج الحشد ولم يجد ضحية أخرى فارتمى على الرجل ذي القامة المتوسطة فقطع رأسه. تدحرج الرأس فوق الرصيف حتى حصرته بالوعة المجاري. وبعد أن شفى غليله تفرّق الحشد.

نام رجل..
نام رجل وهو مازال مؤمنا بالله. لما استفاق من نومه لم يعد يؤمن بالله. وصادف أن كان لهذا الرجل في بيته ميزان طبي اعتاد أن يتحقق من وزنه صباحا ومساء. وهكذا كان قد وزن نفسه البارحة قبل ذهابه إلى النوم فكان *4 مثقال و21 رطلا. في صباح الغد الذي استيقظ فيه غير مؤمن بالله، رأى أنّه لم يكن يزن سوى 4 مثقال و13 رطلا. «وبالتالي، قال الرجل مع نفسه، إيماني كان يزن حوالي ثمانية رطل».
*وحدات وزن روسية قيصرية.

الصندوق
رجل ذو رقبة نحيفة أدخل نفسه في صندوق، أغلق الغطاء وشرع في الاختناق. كان الرجل ذو الرقبة النحيفة يقول مختنقا: هكذا أنا أختنق في الصندوق لأنّ رقبتي نحيفة وغطاء الصندوق مغلق ولا يترك سبيلا لمرور الهواء. سأختنق لكن غطاء الصندوق في كل الأحوال لن أفتحه. رويدا رويدا سوف أموت، وسأرى بعيني المعركة الدائرة بين الحياة والموت. المعركة التي لن تجري وقائعها على نحو طبيعي وعلى قدم المساواة، لأن الموت هي التي ستنتصر بطبيعة الحال، والحياة مصيرها الموت، هي فقط تحارب العدو دون جدوى، لا تفقد حتى الدقيقة الأخيرة أملا عديم الفائدة. في هذه المدعوة حربا التي تدور رحاها الآن، ستعرف الحياة وسيلتها للانتصار، من أجل ذلك عليها أن تجبر يدي على فتح غطاء الصندوق، وسنرى من سينتصر! بيد أنّ هنا تنبعث رائحة النافتالين الكريهة، وإذا ما انتصرت الحياة سأنثر التبغ على الأغطية التي لدي هنا.
ها قد بدأ كلّ شيء: لم يعد بوسعي التفكير، أنا ميت وهذا أمر واضح. وما عاد هناك من خلاص ممكن! ولا شيء في رأسي يبلغ درج السمو. أنا أختنق. آه! ما هذا الأمر؟ في هذه اللحظة شيء ما قد حدث، لكنني لا أفهم بالتحديد ماذا وقع. لقد رأيت شيئا أو سمعته… آه! من جديد شيء ما قد حدث! يا إلهي! لا هواء لدي. يبدو أنني أموت… وماذا هناك من شيء آخر؟ لماذا أغنّي؟ يبدو أنّي أشعر بألم في رقبتي… لكن أين هو الصندوق؟ لماذا أرى كل ما هو موجود في الغرفة؟ لكن لماذا أنا ممدد على الأرض؟ وأين هو الصندوق؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى