الرأي

دنيا

‎لا تظن أن للدنيا وجها مستقرا ثابتا تظل عليه، هي حربائية متلونة ماكرة، تنزل بك يوما وتصعد بك آخر، تجعلك ملكا متوجا ثم تنزع عنك جاهك، وقد يحدث ذلك في عشر ثانية. إذا ائتمنتها خانتك، وإذا تعلقت بها باعتك.. تسامرك في لحظة نشوتك وتدير ظهرها لك كأنها ما عرفتك.. خداعة.. منافقة، توهمك أنها لك.. حتى تطمئن ثم تنسحب من بين يديك كماء وجد بين أصابعك منابع حريته، فتتركك أنت الصغير الطامع في نيل رضاها، صفر اليدين وصفر القلب وصفر الروح.. تفرح أنت ليبتئس غيرك، ثم تكتئب أنت ليطرب غيرك. للدنيا منعرجات حادة تحمل من تشاء معها للقمة، وتدفن من تريد معها في فج منحدر.. وتستمر حركتها إلى أن يشاء الله لها التوقف!
‎في جانب المدينة سيدة ترزق بطفلها الأول تلفّها الفرحة وتحيطها ‎هالة السرور الذي يخنق الأنفاس، تبكي فرحاً وترقص دقات قلبها على أنغام هذه الهدية بهية، فيؤذن أبوه في أذنه ليخبره بأنه مرحّب به في هذه الحياة.
‎في الجانب الآخر أسرة تفقد أباها ووطن يفقد رجلاً من كبار رجالاته، تبكيه الأعين وتزفه للجنة حشود من المحبين.. من أحبوه لله وفي الله لا لمنصب دنوي ولا لمكسب مالي، ينهار الرجال بكاء وتنتفخ عيون النساء وقد أعيتها ملوحة الدموع.. فيؤذن المؤذن ليخبر أهله عن نهاية مقامه في هذه الحياة.
‎هنا فتاة تناقش دكتورتها وتنالها بدرجة مشرفة جداً. يحيطها أهلها وأصدقاؤها، فتبكي فرحاً وتفخر بأنها أنجزت ما كانت تحلم به، تصافح حلمها وتعانقه بعد أن صار واقعاً، ترى مسيرتها قد تكللت بنجاح كبير.. تهدي عملها لأبويها الفخورين بهذه الدكتورة الصغيرة التي خرجت للوجود من دمهما ولحمهما..
‎وفي الجانب الآخر شاب لم يستطع أن يكمل دراسته واضطر لأن يخرج لسوق العمل في سن مبكرة.. تخنقه الدمعة حين يعجز عن قراءة مكتوب بلغة أجنبية، وتحيطه الحرقة عندما يصادف ابن جيرانهم الذي استطاع إتمام دراسته بالخارج.
‎الحياة صعود وأفول، يبتليك الله لينعم على غيرك.. وينعم عليك ليبتلي غيرك.. تبكي اليوم لتضحك غداً.. وتضحك اليوم لتحزن بعد غد.. لا شيء تام دائم، لا الفرح يدوم ولا الألم يستمر.
‎تصيبنا مصيبة فنظن لحظتها أنها نهايتنا وأن الجرح لن يطيب وأنه الضياع الحتمي، تمر أيام أو شهور، فنتناسى، ثم سنوات.. لنترك الذكريات وراءنا وكأن الحزن ما زارنا من قبل.
‎نفرح لترقص تلافيف قلوبنا طرباً، ونظنها سعادتنا الحتمية وبهجتنا الأبدية، تمر أيام فنتعرض لابتلاء، فننسى كل لحظة فرح ونظن أن لقلوبنا ما كتبت السعادة قط.
‎نسابق الأيام فتسبقنا، ونراقص الفرح والحزن.. نعلو أياماً وننخفض أخرى.
‎نرى السعادة فننكر الألم، ونسامر الحزن فنتناسى الفرح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى