الرأي

دورة العنف ودورة اللاعنف (1/2)

العنف دورة مجنونة لا تأتي إلا بالعنف. والعنف دورة تزداد اتساعا والتهابا. والعنف لا يحل مشكلة بل يخلق مشاكل. فهذه ثلاث حقائق أساسية في سيكولوجية البشر.. ومن يتغافل عن سنن الله فإن سنن الله لا تغفل عنه. وما ربك بظلام للعبيد.
واليوم كل من العرب واليهود مرضى بالعنف. وشارون الذي ودع، وبن لادن الذي قتل كما قتل، وبوش الذي غادر، والأسد وصدام وبول بوت وستالين، ويلحقهم داعش وفاحش، هم من طينة واحدة، يرون أن القتل أفضل الحلول، مثل الطبيب الذي يعالج مريضه بالتخلص منه، وليس تخليصه من المرض.
وفي كتاب (البؤساء) تبدأ القصة من سرقة رغيف خبز، من أجل إطعام أطفال جياع، لتنتهي في السجن لتسع عشرة سنة. هكذا كتب (فيكتور هوغو) روايته العالمية البؤساء عن (جان فالجان). ويقول طالما كان في العالم بؤس وشقاء وجهل؛ فيجب أن تكتب مثل هذه الروايات. والذي ثبت أن السجن لم يخرج مواطنا صالحاً بل مجرما عتيا. بسبب مسلسل التمرد والعقوبة التي كان يقودها الشرطي (جافير) حرصا على تنفيذ القانون.
والقانون وضع للناس وليس العكس. وفي الإنجيل أن الكتبة عابوا على المسيح وعظه للمخابرات ورجال الحكومة (العشارين) يوم السبت؟ فقال لهم لو وقع خروف أحدكم في الماء يوم السبت ألا تنقذونه؟ ويلكم إن إنقاذ إنسان أهم من خروف، والسبت وضع للإنسان ولم يوضع الإنسان للسبت.
والذي حرر جان فالجان من الأفكار الشريرة السوداء لم يكن السجن أو القانون، بل قسا كافأ سرقته بالصفح عنه. وأفضل ما يؤخذ من الإنسان ليس بالإكراه بل بالإيمان. والقس رأى المنظر خارج إطار القانون والعقوبة، ومن ينبوع الحب والمغفرة ولد إنسان آخر هو العمدة (مادلين) الذي أحيا مدينة كاملة.
وعلى نفس الغرار كتب ديستوفسكي روايته (الجريمة والعقاب) ليقول لنا أن (راسكولنكوف) هو مجرم في داخل صدر كل منا. وأن المجتمع هو الذي يجعل البشر مرضى بالعنف والجريمة. وهذه الروايات تنفع في شرح الأبعاد السيكولوجية لآلية العنف وحدوثه.
وعندما اقتيد لص لعمر (ر) في عام المجاعة ليطبق الحد عليه فيقطع يد الفقير السارق، أطلقه عمر (ر) وقال لسيده لو جئت به مرة أخرى قطعت يدك أنت. وعمر (ر) فهم أن القانون للإنسان وليس العكس. والنصوص لها ظروف تطبيق، وإذا انتفى الوسط بطل الحكم. والحكم يدور مع العلة وجودا وعدما، وبيننا وبين فقه من هذا النوع مسافة سنة ضوئية، بعد أن تحنط العقل عندنا بأشد من مومياء الفرعون بيبي الأول.
وفي يوم 22 مارس 2004م قتل الشيخ ياسين زعيم حركة حماس في دورة العنف الانتحارية. وهو شهيد عند أتباعه، ولكنه في نظر من قتله مجرم مريد. ونحن يصعب علينا فهم الأشياء ما لم نرها من منظور مختلف. ولو ولد أحدنا من رحم امرأة يهودية في القدس لرأى في الرجل زعيما للقتل، ولكنه عند قومه والعرب زعيم روحي.
وإذا كان الفلسطينيون بكوا يومها ياسين فاليهود كان عندهم عرس. والقرآن يتكلم عن متناقضات الوجود أنه في اللحظة الواحدة أضحك وأبكى وأنه أمات وأحيا. وسبحان من جمع الأضداد. وفي يوم بكى اليهود على حائط المبكى، وفي الحرب العالمية الثانية صب عليهم العذاب صبا وتبرأ منهم كل واحد، وكل أمة لها يوم محزنة.
والشيخ ياسين رحمه الله كان يردد قول ابن آدم من القرآن (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين) فقال أنه لن يمد يده بالقتل للسلطة الفلسطينية. والرجل كان شخصية كارزمائية ولو أكمل الحكمة القرآنية فخاض صراعه مع اليهود بنفس الطريقة لكان غاندي الشرق الأوسط. والطريق مفتوح لمن جاء بعده في إعلان طلاق العنف، ولكن الشيخ ياسين رأى حل الأمور بطريقة الثورة الفرنسية وليس بالطريقة النبوية.
والخميني من قبل كان بإمكانه أن يفعل مع صدام ما فعله مع الشاه، ولكن هذا يعني تغيير إحداثيات التفكير، وإدخال رياضيات تفاضل وتكامل في عملية تغيير النفوس. وتغيير ملوحة التربة الثقافية المشبعة الدم.
وخيار المقاومة السلمية ما زال مفتوحاً أمام الفلسطينيين أن يتبنوا طريق اللاعنف فيكفوا عن الدماء ومن طرف واحد؛ كما جاء في قصة ابن آدم الأول. والقرآن يقول عن القاتل أنه كان من (الخاسرين). ويعتبر من لم يقتل أنه نجح مرتين في الحياة والممات. فقد تقبل قربانه ولم يتقبل من الآخر. ومات فلم يدخل في مذهب القاتلين الظالمين. وكان مصرعه السلمي سببا في تغيير موقف القاتل فأصبح من (النادمين). ومن عمق القصة يذهب القرآن لبناء حكم إنساني معمم. أن أي مجتمع يبنى على حكم المخابرات فيضرب أي مواطن بكف أو يعذب أو يقتل يفتح الطريق لخرق الكرامة الإنسانية للجميع.
وكما يقول سقراط إن كان لي الخيار بين الظالمين والمظلومين فأحب إلي أن أكون من الفريق الثاني. وهذا أمر سيكولوجي له نتائج في تحفيز الوعي واللاوعي لنصرة المظلوم.
ونرى هذا جليا عند الشيعة والمسيحيين. فأما الشيعة فهم يجلدون أنفسهم في عاشوراء كل عام إحياء لذكرى المقتول ظلما الحسين. ويقبل الناس على رؤية فيلم المسيح فيبكون بعد مرور ألفي سنة على محاولة صلبه، فأنجاه الله. لأنه يذكر بمصرع الحسين على نحو أشد سلامية. وهو قانون نفسي عند جميع الناس فيحرك مشاعر التضامن لكل المظلومين الذين قضوا من أجل أفكارهم؛ فلمع اسمهم بأشد من الشعرى اليمانية في أفق الإنسانية مثل (ابن رشد) و(جيوردانو برونو) و(جان هوس) و(السهروردي) و(قرة عين) و(جان دارك) و (ابن تيمية). الذين فضلوا الموت من أجل أفكارهم ولم يمارسوا العنف.
وهناك من يخلط الآيات القرآنية وهي آيات متناثرة مثل نجوم السماء. ولولا الإسقاط العقلي على نجوم الدب القطبي ما عرف الناس الشمال من الجنوب. وآيات القرآن كذلك ففيها (كفوا أيديكم) وفيها (اقتلوهم حيث ثقفتموهم) وفيها قصة (نبأ ابني آدم بالحق). فيجب وضع صورة بانوراما لمعرفة المحيط من الإطار وقوانين الطوارئ من أحكام السلام. ويا أيها الذي آمنوا ادخلوا في السلم كافة.
ويجب أن نستوعب أن إسرائيل لم تكن لتوجد لولا المرض العربي. وهو أمر لا يعترف به العرب. وأنه لولا انهيار الجهاز المناعي العربي ما انفجر الالتهاب الصهيوني. ولولا وجود المستنقعات ما تكاثر البعوض وانتشرت الأمراض. وفي الوقت الذي يتعافى فيه العرب فلن تزيد إسرائيل عن فورموزا الشرق الأوسط. ولكن أن تقطع أنف أحدهم بالمقص وبدون تخدير أسهل من استيعاب هذه الحقيقة.
وكل ما نكتب ليس له قيمة ومن يقاومه أكثر ممن يناصره. وهذا الأسلوب إنساني وأخلاقي واقتصادي ويمكن التخلص به من ديكتاتوريات الداخل والاحتلال الخارجي. ويمكن به قهر إسرائيل وإخراج أمريكا.
ولكن الشعوب تتعلم عادة بالعذاب أكثر من الكتابات فيزاد العذاب جرعة جرعة حتى ترجع أو تموت فتبتلع من قوى أفضل منها. والمفكر فدائي بقلمه فيجب أن يصدع بالحق.
ومع الوقت يتنبه الرأي العام العالمي إلى عنف إسرائيل وظلمها وبدأت أسهمها في التناقص فيجب الرهان على الرأي العام العالمي وإعلان نبذ العنف. ولكن هذا يحتاج إلى وعي مختلف وأرضية معرفية متباينة.
ويجب أن نعلم أن ولادة إسرائيل تمت على يد قابلة أوربية. ومن أنجبها كان (الهولوكوست Holocaust) و(الحل النهائي Endloesung) النازي. ويجب أن يستوعب العرب حقيقة إسرائيل، وأنها امتداد الحضارة الغربية، وأنها ديموقراطية من الداخل وعنصرية من الخارج، وأنهم أشداء على الفلسطينيين رحماء بينهم. وأن الأوربيين أوجدوها لتبقى. وأن الأوربيين حلوا الهولوكوست على حساب العرب. وأنهم وضعوا العرب واليهود في قدر تغلي بالاثنين فأرسلوا اليهود إلى هولوكوست جديد. فإسرائيل محكوم عليها بالفناء لأنها ولدت بأخطاء كروموسومية غير قابلة للحياة والاستمرار.
وحين تأتي قوة استعمارية إلى المنطقة لأنه يجب أن تأتي؛ فالطبيعة تأبى الفراغ. وحيث نبتت الديكتاتوريات ماتت الأمم. ولا تحلق النسور إلا فوق الجيف.
وهناك من ينصح الفلسطينيين باستخدام أسلوب حزب الله في المقاومة المسلحة وهو ما تورطت به الانتفاضة وهو فهم مغلوط لواقعات التاريخ والواقع؛ فجنوب لبنان ليس أرض الميعاد. وبضعة جنود في الشريط الحدودي ليس مثل ستة ملايين يهودي في إسرائيل. والجزائر قدمت مليون شهيد لطرد الفرنسيين ولكن لم تولد حتى اليوم. وينطبق نفس الكلام على أفغانستان والصومال، وطرد الأجنبي سهل وبناء نموذج حضاري هو التحدي الأعظم. وعلى العراق اجتمع الاحتلال مع بقايا الاستبداد مثل الايدز والسل. ومن سينحر حزب الله في النهاية هم نفسهم العرب.
وأتذكر من صفحات الانترنيت من موقع إسلام أون لاين نص رسالة موهومة موجهة من الشيخ ياسين إلى حكام العرب يستنجدهم لنصرة فلسطين. وفي يوم استنجد صلاح الدين الأيوبي بملك الموحدين في المغرب فغضب على الرسول ورده لأنه لم يسمه خليفة المسلمين.
والجماعات الإسلامية لو كانت في مقعد حكام العرب لفعلوا نفس الشيء وبفتوى دينية؟ كما كان يفعل شيخ الإسلام في الأستانة بأن (الفتنة أشد من القتل) فيقتل (وبنص من القرآن) في ساعة واحدة 19 من أخوة السلطان محمد خان الثالث خنقاً غداة ركوبه على العرش ورقاب المسلمين.
هل يحق للفأر أن يتشاءم إذا رأى قطة سوداء؟؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى