الرأي

دور العجزة وتشيخ المجتمع الصناعي

إن كلمة بيت عجزة مخيفة، فقد قرأت البارحة بحثا عن الحكم قضائيا على أكثر من واحد في ألمانيا لقيامهم بجريمة قتل كبار السن الضعفاء العجائز المساكين الذين هم تحت العلاج، ولا يملكون الدفاع عن أنفسهم، من ممرضين شباب ملوا من معالجتهم والاعتناء بهم؛ فحقنوهم بالسموم وقضوا عليهم. هكذا قال بعضهم في المحكمة: لقد أرحناهم من هذه الحياة التي لا طعم لها ولا لون ولا رائحة.
إن الشيخوخة مخيفة حين تدب في المفاصل، وإن الطبيب راينهارد الذي ربما بلغ السبعين الآن قد يتذكر تلك المحادثة، أما أنا فقد منحني الرب خمس بنات بارات وعشرة أحفاد كما ذكر الرب في محكم التنزيل عن آياته أنه رزقنا بنين وحفدة ورزقنا من الطيبات.
كنت يوما في مدريد أزور صديقا لي فقال لابد لنا من المرور على دار رعاية كبار السن حيث يعمل صديق لنا؟ قلت لسفيان الصديق الحميم هلم فلنزره معك؟ نفس الشيء حصل معي في مدينة مونتريال الكندية حيث زرنا والد صديق لنا كان مناضلا حزبيا وكاتبا مميزا ومحاميا مصقعا فتحول إلى جثة، لا ميت فينعى ولا حي فيرجى؟؟ اللهم ارحمنا وأحسن ختامنا.
وكنت حريصا أن أرى مثل هذه المؤسسة وكيف تعمل في إسبانيا. إنني لا أنسى المنظر المريع أبدا؟ لقد تجمد عندي في الذاكرة فلا يبرح، وأخاطب نفسي بثلاث: اللهم لك الحمد على الإيمان، اللهم لك الحمد لا ينتهي على الصحة والنشاط، اللهم لك الحمد بقدر خلقك على العقل والنشاط الذهني.
كان كبار السن في تلك المؤسسة في حافة مدريد في الحقيقة هياكل من الأموات جثثا. واحد نائم في كرسي يخر لعابه من فمه ولا يدري، واحد مستلق على كرسي يحدق في الفضاء البعيد بدون نهاية، وثالث بالكاد يسحب رجليه لخطوات، ورابع بعكاز في شكل مهترئ في هيئة يرثى لها، والممرضة محتارة بين إطعام هذا، وتجليس ذاك، وتزبيط مرتبة ثالث، وتنظيف رابع من البول والقذارات.. كانت باختصار حفلة استقبال الموت يوميا. وإن نشب حريق ـ وقد حصل ـ ماتوا مثل صناديق قابعة لا تملك حراكا وهربا من موت زاحف.
البشر يشيخون هذا حق.. ومن نعمره ننكسه في الخلق أفلا يعقلون. وكلنا يريد أن يشيخ وكلنا يريد أن يعمر ويحافظ على الشباب، مثل من يريد أن يأكل من الكعكة ويحافظ عليها؟ وما هو بقادر على ذلك؛ فمن أكل انتهت الكعكة والحفلة، والشمعة تذوب مع الزمن فتلتهم نفسها، ومن أراد أن يجمد الزمن فهي حالة واحدة فقط بالتصوير؛ فالصورة تحبس الزمن للحظة، أما عموم الزمن فهو يتدفق بدون ماسك وصاد وحاجز إلا بالركوب على ظهر شعاع الضوء كما تقول النسبية. وهو مستحيل إلا بطريقين؛ الأولى كما جاء في الحديث عن تحولنا إلى أجسام نورانية عن أول زمرة يدخلون الجنة أنهم على هيئة القمر ليلة البدر، والزمرة الثانية على أشد كوكب دري في السماء إضاءة.
وأما المعراج الثاني لكسر الزمن ولجمه ونفيه وحبسه فهو كما جاء في القرآن عن جنة عرضها السموات والأرض، حسب النظرية النسبية الخاصة بتوقف الزمن بكسب سرعة الضوء، أو النسبية العامة بالوقوف على كتلة لا نهائية؟ ومن هذين يتوقف الزمن فيبقى الشباب.
ومن هذين المدخلين يقف الزمن فيذبح كأنه كبش أملح، وهنا ندخل فيزياء جديدة مختلفة عن الفيزياء التي نعرفها في حياتنا حين نرى في المنام أننا نطير مثل الطيور المهاجرة.
وأحيانا أقول في نفسي مع الموت قد ندخل عالما موازيا من مضاد المادة فتدخل الطاقة أجساما جديدة مع انقلاب شحنات الذرات، وإن الآخرة لهي دار الحيوان لو كانوا يعلمون والله يعلم وأنتم لا تعلمون.
أمام تشيخ المجتمع الألماني وردا على العنصري سارازين الذي أطلق صيحة الإنذار من الاحتلال الإسلامي لألمانيا لا ننسى أيضا موجة النزوح السورية الأخيرة فقد أطلق أحد العقلاء من الحريصين على نماء المجتمع الألماني صيحته أيها الأجانب هلموا إلينا (Auslaender her).
هذا الشعار أطلقه رجل علم ألماني هو راينر كلينجهولتس (Reiner Klingholz) يعمل مديرا لمؤسسة التنمية والعمران في برلين (Bevoelkerung & Entwicklung)، في مواجهة الديناصور النازي الذي أطلقه من عقاله رجل عنصري أشرنا إليه في مطلع البحث هو تيلو سارازين (Thilo Sarrazin) حين فجر قنبلته بكتاب أيها الألمان لقد قضي عليكم، وبكلمة أدق ألمانيا تلغي نفسها. بكلمة أصرح ألمانيا تمارس الانتحار؟(Germany eliminated herself = Deutschland schaft sich ab?)؟ وكيف ذلك؟ يقول الرجل أنه في ألمانيا سوف يكون عام 2100 م 35 مليون تركي؟ ولا أريد لحفيدي أن يصبح غريبا في بلده، وهؤلاء الأتراك يرفضون الاندماج في المجتمع الألماني وهم يزحفون وكأنهم جراد منتشر مهطعين إلى الداع باتجاه جرمانيا العظمى. ولم يستثن العرب واليهود ـ من حسن الحظ أن لمس الجدار الصاعق لبني صهيون ـ ولذا فقد نصحه رئيس المجلس اليهودي في ألمانيا بالانضمام إلى الحزب النازي (NDP) وليس من حزب نازي اليوم بل اللعنة وسوء الدار.
حين قرأت البحث قلت من الضروري أن لا ينفعل العرب والأتراك والأكراد بل واليهود المتواجدون في ألمانيا (بعد المذبحة اليهودية في الحرب العالمية الثانية ربما لم يرجع أو يبق سوى ثلاثين ألفا منهم؟).
ومن الضروري أن يصدر كتاب علمي متماسك يدرس حجج الرجل ويرد عليه من نفس المقولات التي ينطلق منها، وهو ما فعله رجل ألماني هو كلينجهولتس كما أوردنا ذكره، والرجل محيط بالمسألة ويعرف عمليات الهجرة وإحصائيات تنقل البشر وحركة الأجانب في ألمانيا، وقد رد على طروحات أو مخاوف وتهويلات سارازين على نحو رزين وبعنوان ملفت للنظر أيها الأجانب أهلا بكم بين أظهرنا تعالوا فأنت مرحب بكم؟
وكنت أثناء رحلة تخصصي في ألمانيا حيث أتلفت أقرأ على الجدران والحيطان ودورات المياه ومحطات البنزين أيها الأجانب افرنقوا وانقلعوا وأنتم غير مرغوب بكم ولا مرحبا بكم أنتم صالوا النار.
في عدد الشبيجل الأول الذي فرقع الخبر كان في رقم 34\2010م أما النقاش من محاور شتى فقد جاء بالتفصيل في العدد 35 حيث حلل الوضع كاتب خبير من جماعة مجلة الشبيجل الألمانية هو أيريك فولات بعنوان ويحك ألمانيا لقد جن جنون أبنائك وكلمة أموك لاوف بالألمانية (Amoklauf) تعني الجنون والجريمة معا وتحدث حين ينطلق طالب مدرسة بدوافع عنصرية هستيرية فيتسلح ثم يفتك بمجموعة من أقرانه في المدرسة وأساتذته وقد تكررت كثيرا، والرجل يصف الوضع أن نماذج من هذا الطراز انطلقت من عقالها، وأن كلمات السب والشتيمة بدأت تصبح عادة بين الأطفال والطلبة من نوع أيها المسلم الوسخ، وفي النهاية يختم مقالته بعبارة مخيفة؛ هي أن سارازين لم ينشئ جمهوريته بعد ولكنه في الطريق إلى ذلك.
وهناك في العدد 35 مقالة قصيرة ومحترمة ودسمة لشاب هو (طارق الوزير) من أصول عربية فهو خليط من أب يمني وأم ألمانية ويحتل مركزا مهما في مقاطعة هيسن في ألمانيا في حزب الخضر، يروي فيه أصول المدعو تيلو سارازين ليصل إلى نتيجة مفاجئة أن 20 في المائة من المتواجدين في ألمانيا أصولهم هجينة، وأن سارازين نفسه أصله من الهوجنوت من البروتستانت الفرنساوية الذين هربوا من مذابح القديس برتليميوس، حين أغلق الكاثوليك أبواب باريس عليهم وعلَّموا أبواب بيوتهم ثم بدأوا بذبحهم في يوم القديس، فذبحوا الجميع وراقصوا الجثث وبقروا بطون الحوامل ولم يتركوا من فسق وفجور ودعارة وخمور ومحارم إلا فعلوها وحين برد الدم قليلا قام الحرس السويسري فكمل عدد الأموات إلى أكثر من ثلاث آلاف ضحية في تلك الليلة الحزينة.
يقول طارق الوزير: ما الذي حدث لهؤلاء الهوجنوت الذي سارازين هو من أحفادهم؟ لقد فروا إلى الأرض الألمانية حيث قام الأمراء المستنيرون بإيوائهم وإعفائهم من الضرائب والسماح لهم ببناء مدارسهم الخاصة والتكلم بلغتهم والانفراد بمحاكمهم المستقلة وأعطوهم الأرض ينموها والبلد كي يشاركوا في تنميته فاستفادت ألمانيا أيما فائدة.
يقول طارق الوزير كان حظ أجداد تيلو جيدا في الاجتماع بأمثال هؤلاء الأمراء المستنيرين ولم يكن حظهم بالاجتماع بأمثاله من الختايرة العجايز الحانقين الساخطين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى