الرأي

ستة عوامل في أساس أزمة المعارضة

عبد الإله بلقزيز

حين يصبح المجتمع مجتمعا ضيقاً، يكاد أن ينحصر في مساحةٍ من التمثيل رمزية – مثلما هي حاله اليوم في البلاد العربية – وحين يدخل استغلال الدين في جملةِ عُدة اشتغال العمل السياسي المعارض – كما هي الحال مع حركات «الإسلام الحزبي» اليوم -لاستنصار الأتباع والمحازبيين، وحين تعزف الناس عزوفا، شبه تام، عن الانتماء إلى الأحزاب والتنظيمات السياسية، ففي ذلك أشد القرائن -دلالة- على المستوى الذي بَلَغَته أزمة المعارضات في الوطن العربي والمأزق الذي انحشرت فيه. والحق أن لهذه الأزمة «أسبابَ نزول» تفسرها. وهي كناية عن منظومة من العوامل والأسباب المتعددة والمختلفة: منها الموضوعي ومنها الذاتي، منها السياسي ومنها الاجتماعي والثقافي والتنظيمي. لِنُلْقِ نظرةً على بعضٍ من أهم تلك العوامل والأسباب الذاتية التي يتولد من فعلها وتأثيرها مأزقُ المعارضة ذاك، ولننظر سريعاً في ستةٍ منها نافذة المفاعيل:
*أولها، فقدان المعارضات للمشروع السياسي، المستند إلى رؤيةٍ والمعبِر عن نفسه في برنامج اجتماعي-اقتصادي يخاطب مصالح الكتلة الشعبية العريضة من الكادحين والمحرومين والمهمَشين، ويصوغ الشعارات المناسبة، ويجترح الإمكانيات المادية لتوليد قوة اجتماعية حاملة للمشروع ذاك. الغالب على المعارضات اليوم، بل منذ عقد السبعينات من القرن الماضي، الازورار عن المسألة الاجتماعية- وهي أم المسائل في المجتمعات العربية- والهروب نحو مسائل أخرى منها الديمقراطية وتوزيع السلطة، وهي مسائل غير قادرة -في أفضل الأحوال- على إثارة اهتمام إلا فئات قليلة تنتمي إلى الطبقة الوسطى. على أنها، حتى على هذا الصعيد، لا تملك رؤيةً أو برنامجاً سياسياً، بالمعنى الدقيق للكلمة، بقدر ما تملك شعارات عامة لا يستطيع الجمهورُ المخاطَبُ بها أن يتميَز فيها زيداً من عمرو: من فرط تناسخها في بيئة الأحزاب كافة. وغني عن البيان أن معارضةً تفتقر إلى رؤية وبرنامجٍ سياسي، وليس في جعبتها غير شعارات يرددها آخرون، لن تجذب أحداً ولن تكون مقصِداً لطالبي حقوقهم.
*وثانيها، فقر المعارضات إلى ثقافة سياسية متشبعة بالحس التاريخي، مما يتولد منه فقر في الواقعية السياسية لديها. يقابل ذلك تضخُمٌ شديد في النظرة الطوباوية إلى التغيير والمستقبل ليس لها حاملٌ اجتماعي ولا ميزان قوى مُسْعِف!
*وثالثها، الفقر الحاد إلى القيم الديمقراطية في الحياة الداخلية للمعارضة، وتجسُداتُه المادية عديدة، من الانفراد بالقرار من طرف فردٍ أو فئة صغيرة، إلى تهميش الرأي المخالف أو قمعه، إلى احتكار أدوات الحزب الإعلامية من قِبل التيار المهيمن، إلى تحكيم قاعدة التصويت ونبذ قاعدة التوافق، إلى استبداد الزعيم وجهازه التنفيذي بالرأي وتهميش الأجهزة التقريرية أو تعطيل عملها، إلى استفحال البيروقراطية المركزية الرثة في نظام الاشتغال، إلى التكلس والترهُل التنظيميَيْن اللذيْن يعبر عنهما استمرار قيادات بعينها في السُدة التنظيمية لعشرات السنين، إلى تعطيل آليات التداول على المسؤولية من خلال تطيير المؤتمرات وإرجائها إلى ما شاء وليُ الأمر الحزبي… الخ.
*ورابعُها، العلاقة الموسمية بالجماهير! لا تبدي المعارضات أي شكل من أشكال الحرص على بناء علاقات دائمة، غير منقطعة، بالجمهور الاجتماعي من طريق مخاطبته المستمرة في الشؤون العامة، وإطلاق مبادرات تجتذبه إلى المشاركة السياسية، وتوفير فضاءات للتكوين والإعداد والتثقيف (المدارس الحزبية مثلا)، وتطوير وسائط التواصل معه، وتقديم خدمات اجتماعية إليه تعوض عن غياب الخدمات العامة، وتنمية روح المواطنة الإيجابية فيه…، وإنما تقيم معه علاقةً مصلحيةً أحادية ضيقة كلما احتاجت إليه: في منافسةٍ انتخابية مثلاً، أو في تحشيد مهرجاني، أو حين تدعوه إلى إضراب أو تظاهُر أو اعتصام، وكأنه مأمور تحت إمْرتها.

*وخامسُها، التكوين العصبوي لقسم كبير منها، قائم على عصبية القبيل أو الطائفة أو المذهب أو المنطقة الجغرافية، ومُقْفَل على تلك البيئة العصبوية، إن ذلك التكوين يفضح المضمون السياسي لذلك القسم من المعارضات، الذي أصبح كبيرا، بل الذي يكاد أن يكون الأكبر في خريطة تلك المعارضات. وما أغنانا عن القول إن «معارضة» عصبوية (طائفية أو مذهبية أو عرقية أو مناطقية…) ليست من المعارضة في شيء لافتقارها إلى شرطها الموضوعي (الوطني الجامع)، وهي لا يمكن أن تقترح على المجتمع سوى الحرب الأهلية، أو تكوين نظام سياسي عصبوي قائم على الاحتصاص (المحاصصة) الذي يوزع الدولة أشلاء على رؤساء العصبيات! وأكثر معارضات هذا الزمن الرديء من النوع هذا الذي نهش في جسم لبنان والعراق، طويلا، وينهش اليوم في جسم بلدان عربية أخرى: إنْ بالسلاح أو باللسان!

*وسادسها، استغلال الدين في العمل الحزبي، وبناء عملية التعبئة والتحشيد على أساس التمييز الديني داخل الجماعة الوطنية، واصطناع مفردات للسياسة غير سياسية، وتهديد الاستقرار الوطني بإدخال العقيدة في مجال المنازعة السياسية على ما هو دنيوي ونسبي (السلطة، الثروة، المصالح المادية). ولقد بينت تجربة «الإسلام الحزبي» أن تجديد الدين لبناء القاعدة الحزبية العريضة، لا يحمي القاعدة تلك من الانفراط أو من التآكل، وخاصة حينما يكون على المعارضة الإسلامية أن تنسى كل «واجباتها الدينية» في السياسة من أجل التكيُف مع موجبات تلك السياسة. والأسوأ من ذلك أن تجديد الدين في السياسة أسس، في بعض الأحوال، لكل أنواع العبث بمصير الوطن والشعب، فأنتج من الحرب الأهلية الكثير.

*هذه بعض من أسباب المأزق الذاتية. لكنها أسباب وجدت البيئة الموضوعية المناسبة للإخصاب في أزمة الطبقة الوسطى، وأزمة النظام السياسي، وهما متضافرتان وتأخذ إحداهُما إلى الأخرى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى