الرأي

سفر خارج الذات

شامة درشول

 

الأمر لا علاقة له بدعوة الوزير اليتيم المواطن المغربي إلى السفر داخل الذات، بل تجربة السفر والتنقل من غرفة لأخرى، ولكن له علاقة بوثائقي شاهدته أمس حول «كيف وأين يقضي أثرياء العالم عطلتهم؟».

مصمم أزياء خاصة بالمشاهير، صاحب دار أزياء فخمة، ومليارديرة كانت زوجة لواحد من أثرياء العالم، الثلاثة تتبعهم الكاميرا لتنقل للمشاهد كيف يختار الأثرياء قضاء عطلتهم.

تذكرت الوزير اليتيم ومقولته الشهيرة وأنا أتابع البرنامج على الأنترنيت. لا تجذبني كثيرا مثل هذه البرامج، لكني أحببت أن أكتشف «سفرا خارج الذات»، غير ذاك «السفر داخل الذات»، الذي دعا إليه الوزير اليتيم، لعلي أجد في دعوته تلك جوابا لتساؤلي «ما الذي يدفع عضوا من جماعة الإخوان المغربية، مثل الوزير اليتيم، إلى تبني مقولة للمتصوفة؟».

أترك التفكير والتأمل في هذا التساؤل، فربما حتى اليتيم لا رد له عليه، أو ربما لم ينتبه إلى أن من استشهد بمقولتهم، هم وجماعته يحاربونهم، لذلك فضلت أن أتابع البرنامج بتفاصيله، وانتظرت أن يكتفي معدوه بإطلاعنا على أفخم الأماكن التي سيزورها هؤلاء الأثرياء، لكن البرنامج مرر من خلال الثلاثي الثري ما لم يخطر على بالي.

يبدأ البرنامج بمصمم الأزياء، يحكي أنه كان يعيش في فرنسا رفقة والدته التي تركها والده ورحل، وأنه ترك المدرسة وهو في سن الرابعة عشرة، وأنه كان فقيرا، لا يملك شهادة تعيله، لكن كان يملك في قلبه حبا كبيرا للألوان والتصاميم، وحبا أكبر ليكون ثريا ومشهورا. يقول إنه رحل إلى أمريكا، ووصل الى لوس أنجلوس وفي جيبه ثلاثمائة دولار، وأطلق ماركة الأزياء التي باتت تنال إعجاب المشاهير في أمريكا، فأصبح مشهورا وثريا، حلمه لم يتوقف عند جمع المال، وتحقيق الثروة، بل إنه أسس عائلة ولديه ثلاثة أطفال، يحرص على تربيتهم على العمل والتحدي، وأيضا على احترام العائلة، واختيار الأصدقاء الأوفياء، لذلك اختار أن يذهب في عطلة مع عائلته ويدعو إليهم أصدقاءه المقربين.

من بين هؤلاء الأصدقاء كان أيضا صديقان لم يرهما منذ الطفولة، تواصل معهما، ودعاهما إلى منزله الفخم في لوس أنجلوس، قبل أن يتوجهوا جميعا إلى لاس فيغاس. قال الرجل كلمة مهمة علقت بذهني: «لقد دعوت أصدقاء طفولتي لأنه مهم أن تذكر نفسك كيف كنت ذات زمن، وأين وصلت الآن، وما عليك أن تكون عليه غدا».

صاحب دار الأزياء العالمية، الرجل الثاني في قصة الأثرياء والعطلة، بدوره، اختار أن يذهب في رحلة هذه المرة بحرية، رفقة زوجته وأطفاله، ودعا صديق طفولته، وزوجته وأطفالهما. الرجل استأجر باخرة لأسبوع، يقدر مبلغ تأجيرها لليوم بخمسين ألف دولار، تنقل عبرها بين شواطئ إيطاليا، ومع ذلك توقفت الباخرة عن السير، واضطروا لتمضية بعض الأيام على اليابسة. كان الرجل هادئا، وهو يتحدث إلى الكاميرا ويقول: «لا يجب أن نفقد معنوياتنا المرتفعة، هذه أمور تحدث، وما يجب فعله هو الاستمتاع بما لدينا، نحن في عطلة، وعلينا أن نستغل الأمر من أجل المتعة»، يقول الرجل هذا الكلام وهو يتجول بين أزقة جزيرة إيطالية صغيرة، يشتري مثلجات بثمن بخس، ويتلذذ بطعمها، ثم ينتقل الرجل إلى مدينة أخرى، حيث استأجر له ولعائلته وأصدقائه فندقا خاصا عبارة عن شقق منفصلة كل شقة بمسبح خاص. التقطت الكاميرا صورا لزوجة صديقه، وهو ليس بالثري، تستمتع بالعوم في مسبح خاص، وسألته: «ماذا يعني لك أن تحصل على شقة بمسبح خاص في فندق؟»، فرد على السؤال: «لا شيء، المسبح هو المسبح كيفما كان وأينما كان»، ثم سئل: «ماذا تعني لك الفخامة؟»، فرد: «الفخامة هي البساطة، هي الهدوء، هي الصفاء، هي النقاء»، ثم سئل: «ماذا تعني لك العطلة؟»، فرد: «العطلة، يعني الوقت الذي أتوقف فيه لالتقط أنفاسي من ضغط العمل، وأعود من جديد إلى حياة التحدي». وفي ختام اللقاء معه، التقطت الكاميرا له صورا في منزل، رفقة زوجته وأصدقائه، وبناته يقمن بتلاوة رسائل حب لوالدهن، ليختم اللقاء مع الملياردير الحكيم وهو يقول: «العطلة هي فرصة لأتواجد مع عائلتي وأطمئن إلى أن وصال الحب الذي ربيتهم عليه لا يزال قائما، أهم ما حرصت على تربيته لأطفالي هو الحب، فالمال بدون وجود للعائلة، وللحب، ولأن تحب الخير لك وللناس، يصبح لا معنى له».

مصمم الأزياء، وصاحب دار الأزياء، جمعت بينهما المهنة نفسها، فرنسيان وجدا الثروة في بلاد الأمريكان، لكنهما بلغا من الحكمة ما بلغا حتى فهما أن الدنيا هي أن تواجه التحديات التي تصادفك، وإن مر يوم بدون تحدّ عليك أن تخلقه لنفسك، وأن العطلة هي فترة مهمة للتوقف للحظة، ليس فقط لتدليل نفسك، بل أيضا للتأمل في ما وصلت إليه، في ما حققته بالمقارنة مع من بدأت معهم مشوار الحياة، وأيضا في أن تعي أن تفوز هو أمر رائع، لكن أن تجد من تشاركه فرحة فوزك، ويصفق لك فخورا بك هو أمر أكثر روعة.

على الوزير اليتيم أن يشاهد هذا البرنامج، لعله يتخلص من الدعوة للدروشة، ومن محاولته وجماعته غسل عقول المواطنين بمقولات يتاجرون بها، وهم أول من لا يعمل بها. ولو كان اليتيم وزيرا حقيقيا، لدعا إلى جعل «السفر» واجبا سنويا على المواطن في المغرب القيام به، ولفهم أنه حين تسافر لا تعود الشخص نفسه الذي كنت عليه، ولاستوعب ما قصده «المغاربة الأولون»، حين قالوا: «لي جال حسن من لي عاش»، وهذه دروس لا يمكن للإنسان تعلمها من السفر إلا إذا سافر خارج ذاته، وليس داخلها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى