الرئيسية

صوم مغترب

جهاد

 

 

 

لعل أروع ما يميز شهر الصيام، بعد العبادات والطاعات، هو اللمة، لمة العائلة ولمة الأحباب ولمة الأصحاب، حول مائدة الإفطار وفي المساجد بعد التراويح وفي الضيافات، فلا يدرك قيمة هذه النعمة سوى مفتقديها. ومن سواهم المغتربون طلبا للعلم أو الرزق أو الكرامة ممن تركوا أوطانهم وأهلهم وذويهم ممن يفتقدون كل لحظة من لحظات رمضان وهم محاطون بأمهاتهم وآبائهم وأخواتهم وأصحابهم. لم يسبق لي أن قضيت رمضان بعيدا عن أهلي، عدا مرة قضيت نصفه في إسطنبول حيث لم أشعر بتغيير كبير، ففي عاصمة العثمانيين رمضان هو مهرجان ديني ووطني تتجند البلديات لإحياء لياليه وإطعام الناس وإسعادهم، فتطول موائد الرحمن ويتنافس المقرئون وتتزين الأحياء والشوارع. إلا أن لرمضان في بلد ليوطي ودوغول شكلا آخر، هنا تصوم وحدك وتفطر وحدك وتتعبد وحدك وتبكي وحدك وتفرح وحدك، هنا تخرج لتجد العالم كما هو أنت فقط من تبحث عن روحانيات لا وجود لها. هنا المغتربون يتشبثون ببعضهم لعل الأقدار تلطف بهم وتمنحهم إحساس الوطن، هنا طعامك لا يتغير ولا يعرف إن كان رمضان قد حل أو رحل، هنا لا وجود لصاحب المزمار الذي يوقظك للسحور حتى وإن نسيت ضبط منبه هاتفك. هنا لا وجود لخالتك التي تنشرح أساريرها عندما تعلمها بقدومك للإفطار، هنا أزياؤك التقليدية تختنق منفية وحيدة وسط دولابك، هنا حتى «كبور» لا يضحكك كما يفعل وأنت في الوطن. هنا الشوق يلف الشهر من أول أيامه لآخرها، شوق لتفاصيل مائدة أمك وجلباب أبيك ونكت أخيك. هنا حتى الأكل يتخمر في البراد أياما طويلة، فلا قريب سيأكله ولا جار سيرحب به.

هنا المساجد بلا مآذن، ولا أذان، هي مراكز يجتمع فيها المسلمون بشتى أطيافهم وألوانهم ولغاتهم، هنا المساجد تتعدد وتختلف الأزياء فيها من جلباب وقفطان وخمار وعباءات وفساتين ملونة ترتديها مسلمات السينغال والنيجر والكونغو وغيرهم. هنا تنمحي الفوارق فلا ترى في الجزائري ولا في التونسي أو المصري أو السوري أو الباكستاني سوى مسلم ساقه القدر الذي ساقك إلى المكان نفسه والمسجد نفسه والصف نفسه. هنا يخطب الإمام بالعربية والفرنسية، فأبناء الجالية ممن امتلأت قلوبهم بحب المساجد لا يفهمون الفصحى. هنا أحياء اجتمع فيها المسلمون بمجرد ما أن تدخلها حتى يخيل لك أن الطائرة هي التي قذفت بك وسط مدينتك.

هنا تحمل رمضانك على كتفيك وحدك وتتشبث بعادات أمك في الطبخ وطرق والدك في الذكر، وحتى في نطقه للآيات وشكل جلوسه بعد العصر للتسبيح.

لم أعتقد يوما أنه سيأتي علي يوم أحن فيه لصوت الأذان وصوت المدفع ورائحة الحساء وصومعة المسجد. لم أكن أتصور أن تفاصيلنا الصغيرة هي التي تمنح حياتنا كل هذا الزخم، لم أكتشف سوى الآن أن الذاكرة هي أقسى أشكال الحنين.

فسلام على الصائمين خارج أوطانهم، الصامدين رغم بعد المسافات، الحالمين بوجوه آبائهم وابتساماتهم، المكافحين في سبيل حياة أفضل، والمنتظرين لغد تشرق فيه الشمس عليهم داخل أوطانهم وفي كنف أمهاتهم.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى