الرأي

طماطم مغربية قادمة من جزر الوقواق

مع كل ما شهدته العلاقات بين المغرب والجزائر من أزمات وتوترات ومواجهات، تخلد بعض اللحظات إلى حوار المصارحة. وأهميتها أنها لا تشمل القضايا الخلافية، بل تسرح وراء تقييم محطات واختيارات، متناقضة في المنطلق والأهداف.
من بين أكثر المسؤولين المغاربة إدراكا لتجربة الجزائر السياسية والاقتصادية، يقف الدكتور عبد اللطيف الفيلالي في المقدمة. فهو قبل تعيينه سفيرا للرباط في البلد المجاور، بنى علاقات مع زعماء الثورة الجزائرية الخمسة، خصوصا عند وضعهم رهن الإقامة الجبرية في باريس، على خلفية اختطاف الطائرة المغربية التي كانت ستقلهم من الرباط إلى الجزائر، من طرف السلطات الفرنسية.
أستطيع أن أنقل عنه كلمة بليغة، جاء فيها أن المختبر الحقيقي في المدرسة الدبلوماسية، يتمثل في التعيين في عواصم تكون لها مشاكل وخلافات مع بلد السفير. كان يقصد بذلك فترة مكوثه في سفارة المغرب في مدريد، التي تزامنت واندلاع آخر مواجهة بين المغرب وإسبانيا في قضية الصحراء. وكذلك مروره من السفارة المغربية في الجزائر. لكن حظ بعض السفراء أنهم لا يحلون بأرض إلا ويتم قطع العلاقات الدبلوماسية معها.
ومع أنه كان قليل الكلام أثناء رئاسته الدبلوماسية المغربية سنوات طويلة، فقد اغتنم وفد إعلامي مناسبة عودته من مؤتمر قمة إسلامية في الكويت، وحاصره الزملاء على متن الطائرة بأسئلة دأب على التبرم منها، وأفصح بعد «مطاردته» بأن الجزائر طلبت إلى الرباط مهلة سلم سياسي، إلى حين خروجها من نفق أزمة الصراع على السلطة، ليخلص، إلى أن الطلب فُهم في الرباط أنه لالتقاط الأنفاس والعودة إلى سياسة العداء.
كان الفيلالي حادا في طبعه، ورأيته معاندا في إخفاء الوعكة الصحية التي ألمت به، على إثر حادث عارض ووضع جبيرة على عنقه، ثم جمع نظراءه المغاربيين في مطعم في فندق، تحول إلى قاعة اجتماع. تقدمت منه كي أستفسره عن أوضاع الاتحاد المغاربي ومستقبل العلاقات المغربية – الجزائرية، فأجاب ضاحكا على غير عادته في العبوس: أتمنى ألا تكون حالة الاتحاد شبيهة بالجبيرة التي أضعها على عنقي. ولم يضف شيئا آخر، لأنه من النوع الذي يقتحم المواضيع مباشرة. يتكلم حين يريد، ويصمت حين يتوقع منه الآخرون أن يتحدث.
صارحني مسؤول في ديوانه بأن الرجل تأثر بالانضباط على الطريقة الصينية، لأنه مر بسفارة المغرب هناك في فترة لم يكن فيها الصينيون يتكلمون، بل يعملون في صمت. وروى طرفة عن اجتماع ضم مسؤولين صينيين، تفضل أحدهم برواية نكتة تبعث على الضحك. إلا أن الحاضرين تملكوا مشاعرهم، ولم ينفجروا ضحكا إلا بعد أن فعل ذلك رئيس الجلسة. ما يعني أن الانضباط يظل سيد الموقف حتى في اللحظات المنفلتة عن صرامة البروتوكول.
ماذا يحدث؟ التقى الدكتور عبد اللطيف الفيلالي مع رجل التصنيع الجزائري عبد السلام بلعيد، الذي طبع فترة من حياة بلاده بأوهام الزعامة.. حتى اقتبست أسطورة أن الجزائر هي «يابان شمال إفريقيا»، هكذا كان يقال، والعبرة ليس ما يتناهى من القول، بل بالوقوع تحت تأثير تصديقه والتماهي معه.
أقرب إلى الظن أن كل واحد منهما سيقدم طروحات نظرية وسياسية حول سلامة الاختيار الذي تنهجه بلاده. والأكيد أن عبد السلام بلعيد لم يكن في صورة شغف الدكتور الفيلالي بعالم الزراعة. وكم من مرة أسر لأصدقائه بأنه لو لم يدرس الحقوق في جامعة فرنسية، لامتهن البحث الزراعي. ومن مبادراته أنه تمنى على أكاديمية المملكة المغربية عندما كان أمين سرها، أن تخصص حيزا أكبر من الاهتمام بمسائل التنمية الزراعية والأمن الغذائي.
كان يرى أن الجزائر أخطأت طريقها، من خلال إهمال القطاع الفلاحي، بحكم وجود المزيد من الأراضي الخصبة، وإمكان تطوير البحث في قطاع الموارد المائية. ونجم عن هذا الإهمال أن الجزائر واجهت ولا تزال خصاصا كبيرا في تأمين المواد الغذائية التي تنفق على توريدها، من البيض إلى الطماطم والبرتقال والفواكه التي تعتبر «امتيازا غذائيا»، والظاهر أن المسؤولين الجزائريين على مختلف مستوياتهم كانوا ينظرون إلى المغرب بازدراء، وهو يركز على الفلاحة.
وكتب عبد اللطيف الفيلالي، من وحي لقاء جمعه برجل الصناعة الجزائري عبد السلام بلعيد، أن هذا الأخير قال له: «تفضلون في المغرب زراعة الطماطم والبطاطس، وتعولون على هذا القطاع لتقوية صادراتكم إلى أوروبا»، ثم أوضح أن الأمر بالنسبة للجزائر مختلف: «نحن نعطي الأولوية القصوى للتنمية الصناعية، في مصلحة الجزائر بالطبع، لكن أيضا لخدمة مصالح إفريقيا».
وجاء رد الفيلالي هكذا: «أجل نصدر الطماطم والبطاطس، لأنها تغذي آلاف الأشخاص، لكن لا يعني أن تركيزنا على قطاع الفلاحة، أننا نهمل المجال الصناعي». وسيقول الملك الراحل الحسن الثاني، في الموضوع ذاته، إن الجزائريين كانوا يسخرون من المغرب لأنه يزرع الطماطم، قبل أن يكتشفوا أن لا استقلالية للقرار السياسي والاقتصادي من دون أمن غذائي. على أن التباين الحاصل في وجهات النظر بين البلدين الجارين، أنه يخفي تناقض اختياراتهما.
في فترة انفراج قصير، اتجهت الشاحنات المغربية المحملة بالخضر والفواكه إلى الجزائر عبر الشريط الحدودي الذي لم يكن مغلقا. اكتشف الشعب الجزائري أن الصورة التي كانت تقدمها وسائل الإعلام عن «المغرب الجائع» إنما هي محض كذب وافتراء. أحست السلطات الجزائرية بالحرج، وفي حكاية أنها فضلت توريد منتجات زراعية مغربية عبر وسطاء، أي أن تنزع عنها صفة «أنتج وصنع في المغرب»، ولتكن قادمة من أستراليا أو الكيبك أو جزر الوقواق، المهم ألا يكون عليها ما يفيد بأنها منتجات مغربية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى