الرأي

عقارب الساعة إلى الوراء

قال الرجل الذي كان يُنظر إليه على أنه الأكثر تشددا داخل مربع قيادة حزب الاستقلال: «مخطئون أولئك الذين يحفرون الخنادق بين النظام والشعب». كان امحمد الدويري يخطب في مهرجان تعبئة سياسية في إحدى دور السينما في فاس. وأنهى كلامه بدعوة الشباب إلى حوار مفتوح.
وقف طالب من كلية الآداب يدعى الترميدي، عُرف بمواقفه الراديكالية. سأل الدويري عن أسرار استهداف حزب الاستقلال، مع أنه محافظ يتوخى الإصلاح من الداخل ويناهض نظريات التغيير المعلبة، على حد تعبيره. أجاب الدويري بهدوء بأن أساس الصراع الذي انفجر منذ ستينيات القرن الماضي يكمن في الانحراف عن المسار الديمقراطي الذي كان في وسعه أن يجنب المغرب ضياع المزيد من الفرص. واستشهد بانتكاسة أول انتخابات نيابية، طبخت بتوابل اصطناعية لتمكين «جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية» من حيازة الغالبية.
شرح أن المشكل لم يكن مع «الفديك» الذي جمع شتات أحزاب عدة، ولكنه مع تدخل الإدارة لفائدته، عبر استخدام ضغوط أعوان السلطة وتسخير المساعدات الغذائية الأمريكية للتأثير على الناخبين، وغض الطرف عن الكثير من التجاوزات. ومع ذلك أحرز الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية على مقاعد هامة سحبت البساط من تحت أقدام صنائع الإدارة. أضاف أن الاستقلال شارك في حكومات ضمت وزراء من بعض مكونات لفيف الجبهة قبل الإعلان عن خروجها إلى حيز الوجود، ما يبطل من وجهة نظره مقولات حول رغبة حزبه في الاستئثار ورفض التعددية.
لعله كان يشير بذلك إلى الحكومات الأولى المتعاقبة التي اعتبر امحمد الدويري من أصغر وزرائها المختصين حينذاك. إذ جاءت انعكاسا لمفاوضات «إيكس ليبان» ومتطلبات المرحلة، يوم لم يكن هناك دستور ينظم العلاقات بين السلط والاختصاصات. وكان طبيعيا أن تدعم أحزاب الحركة الوطنية ذلك التوجه الوفاقي الذي برزت معالمه الأولى، من خلال تأسيس المجلس الاستشاري الذي رأسه زعيم الاتحاد الوطني المهدي بن بركة، في انتظار بلورة المشروع الديمقراطي الذي ارتطم بمزيد من العقبات والصعوبات، كان من تداعياتها السلبية فرض حالة الطوارئ في ربيع العام 1965.
ليس هذا الانعطاف وحده ما أثر في انحراف المسار الديمقراطي، فقد اعتبر الانفصال بين الجناحين المحافظ واليساري داخل حزب الاستقلال من بين الهفوات التي تركت ندوبا غائرة على المشهد السياسي. وتابعت على امتداد سنوات كيف أن مطلب العودة إلى الديمقراطية، كان محور الانشغالات الكبرى في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. وفي كل مرة تلجأ فيها السلطة السياسية إلى الاقتراب من الموضوع، من زاوية تأمين غالبيات موالية مطعون في شرعيتها، تتباعد الهوة أكثر.
سمعت الزعيم علال الفاسي يقول: «إن الفرقة بين الأحزاب الوطنية لا يستفيد منها إلا خصوم الديمقراطية». ما يفسر كيف أن خلفه امحمد بوستة جعل من التحالف مع الاتحاد الاشتراكي قضية محورية، بصرف النظر عمن كان الرابح أو الخاسر. ولولا هذا التحالف الذي استند إلى وفاق المركزيتين النقابيتين الكونفدرالية الديمقراطية للشغل والاتحاد العام للشغالين، لما تأتى لطبعة التناوب أن تتحقق في سياقها الخاص.
على متن القطار بين الرباط والدار البيضاء، قال لي الدبلوماسي ماء العينين الذي عمل في ديوان امحمد بوستة في الخارجية، إن مشكلة حزب الاستقلال ليست مع أي حزب يحوز الصدارة، ولكنها مع أسلوب ذلك الفوز غير المستحق، خصوصا حين تصبح الإدارة طرفا في الصراع بين الأحزاب. أضاف أن التعددية مطلوبة، غير أنها لا تكون مصطنعة أو لا تعبر عن روافد ومشارب وتيارات حقيقية داخل المجتمع. لكن طرائق التعبير تختلف في جدواها. فقد تكون الأفكار وجيهة، لكنها تضيع عند الإخراج السيئ، كما أن رؤى أخرى قد لا تكون بجدلية الإقناع ذات حظوظ وفيرة، لكنها في ملامستها الواقع تنفذ إلى العقول والمشاعر.
مرت أزمنة المواجهة. وقال الحسن الثاني بعد ثلاثين حَوْلاً إنه لم يقتنع أبدا بفكرة اكتساح حزب سياسي للساحة بعد مرور سنتين أو ثلاث على تأسيسه. معتبرا أن الأحزاب الحقيقية ينبغي أن تكون لها جذور في الواقع، وزاد على ذلك أنه ليس ساذجا ليتصور إمكان حدوث هذا الأمر. هكذا قال بينما لم تسلم استحقاقات انتخابية على امتداد أزيد من ثلاثة عقود من نكهة الشوائب الفاضحة. واضطر مرات عديدة إلى أن يقوم شخصيا بمعارك في هذا الاتجاه. ولم تسلم أحزاب الحركة الوطنية من انتقاداته، إلى درجة أن بعض خطبه اتسمت بالقسوة والتهديد. واحتفظ الجميع بشعرة معاوية إلى حين إنضاج الظروف المواتية.
لم يكتب شيء كثير عن التحولات الكبرى التي عرفها المغرب، بعلاقة مع انهيار المعسكر الشرقي وإخماد نيران الحرب الباردة. إلا أن الثابت أن التغيير الذي طرق الأبواب والنوافذ شمل الأفكار والمواقف، وحين انتفت أسباب الخلافات الإيديولوجية التي كانت تحجب الرؤية اصطف الجميع على مسافة واحدة غير متباعدة، طالما أن خلافات التدبير تفسح المجال أمام اكتشاف أفكار ونخب جديدة.
من بين الزعامات السياسية التي تركت بصمات لا تمحى، تجدر الإشارة إلى أن الرجل العائد من المنفى أحدث اختراقا كبيرا في المشهد السياسي. وإذا كان الزعيم عبد الرحمن اليوسفي اهتدى إلى أفضل الطرق لاختزال المسافة أمام فكرة التناوب، فإنه فعل ذلك عبر التأسيس لمنهجية جديدة، اسمها الوفاق الدستوري، حين صوت حزبه الاتحاد الاشتراكي للمرة الأولى لفائدة دستور العام 1996.
البقية تفاصيل في سجل صراع ديمقراطي متواصل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى