شوف تشوف

الرأي

علي و الأسد و الطبيب

 

بداية شهر يوليوز المنصرم، قتل طبيبُ الأسنان الأمريكي ” والتر ج. بالمر” الأسدَ سيسل، ذا اللبدة السوداء، و ذا الثلاثة عشر عاما، قتله بعد أن صوب إلى قلبه سهما ، و أتبعه بعد ذلك رصاصة أنهت حياة الأسد الأشهر في محمية زيمبابوي، نزع الطبيب رأس الهزبر، و ترك الجثة بمسرح الجريمة و غادر ، بعد تربص دام أر بعين ساعة، و 55 ألف يورو دفعها للذين دلوه على عرين الأسد، و ثمنا لهذه المتعة اللحظية .

و في اليوم الأخير من الشهر نفسه، و على أرض فلسطين المحتلة ، حرقت حفنة من الصهاينة الغاصبين، الرضيع علي سعد دوابشة ، ذا الثمانية عشر شهرا و ذا الهالة الملائكية ، وقعت هده الحادثة المؤلمة بقرية دوما، إحدى ضواحي نابلس بالضفة الغربية ، حرّقوا الشهيد و عائلته بعد أن أضرموا النار في منزل العائلة الآمنة و غادروا.

قُتل الأسد و خلف وراءه موجة استنكار عارمة ، و أُغلقت عيادة الطبيب، التي كان يقتلع فيها أسنان مرضاه ، و أمام باب العيادة حج المئات من الناس، يكفكفون دموعهم ،حزنا على وفاة الأسد ، و ينعتون الطبيب الدموي بالقاتل ( عُرف الطبيب بماضيه الدموي، كقناص له ثلاثة و أربعون تتويجا من قتل الحيونات ، بين فيلة و دببة و رنّة ) بل إن الجمعية الأمريكية لحماية الحيوانات ” بيتا ” طالبت برأس الطبيب فداء للأسد المغدور .

و مات الرضيع الشهيد ،و لم يحتجّ أحد (إلا قليلا)، و لم يخلف وراءه غير قلب أم مكلوم، و أب معصور الفؤاد مدماه ، أبوان محروقان و بضع بيانات استنكار هنا و هناك ، و حتى الذين صعقهم موت الغدنفر، لم يسمعوا بموت الرضيع التراجيدي ، ولم تتناقل خبر استشهاده سوى بضع محطات .

إن المثير في الأمر و ما يحز في القلب صراحة ، و يجعلنا نفقد الثقة نهائيا في ما يسمى “بالمجتمع البشري ” و جمعياته الحقوقية التي لا تنتهي ، و مؤسساته التي تدعى الدفاع عن كرامة البشر و آدميتهم ، هو هذا السكوت ، و هذه السلبية و التغافل و التعامي و غض البصر، و هذا الانحياز الظالم وهذه الجعجعة المدّعاة ،إزاء أحداث بعينها دون أخرى ، ( يحضرني في هذه اللحظة ، الرجل الأخضر و هو يمزق ميثاق الأمم المتحدة ، في مبنى الهيئة و على مرأى و مسمع من مندوبيها ).

كم هو ظالم هذا التجمع البشري ، عندما يقيم الدنيا و لا يقعدها ، لمجرد ولادة حيوان “باندا” أو ركلة جزاء مهدورة أو لموت سبع ، و نحن لا نماري البتة، أن قتل الحيوان أمر مرفوض ، و لنا في دين الإسلام العظيم ، أثر المرأة التي عُذبت في هرة محبوسة و المرأة الأخرى ساقية الكلب العطشان.

ما تناساه هؤلاء الناس ، الذين انفطرت قلوبهم لموت الأسد ، أنهم يسيرون فوق أرض ، نصف ترابها معجون برماد شعب ،انقرض لحظة فكر “كولمبوس” الغازي في التولي جهة الأرض الجديدة ، ما تناساه هؤلاء النادبون أن طفلا كان اسمه محمد الدرة ، قنصه القناص، وهو في حضن أبيه الأعزل ، وأن طائفة من الناس تحرق بالليل و النهار، لمجرد لون جلدهم ولسانهم ، في بورما و غرداية و العراق و الشام و فلسطين وفي إفريقيا الوسطى و من الروهينغا ، و أنه و حتى الأمس القريب كان يصاد الناس في إفريقيا كما تصاد الضباع.

و نحن لا ننطلق هنا من تعصب أعمى، و لا شوفينية مقيتة ضيقة، و لا انحياز ظالم ، و إنما هو الانحياز للبشر أينما وجد ، الانحياز كل الانحياز لآدمية الإنسان ، رفضا للظلم و الفظاعة و الطغيان.

و مقتا لأمم تسكت عن الحق و تتجافى عنه ( رفضت روسيا مجرد الاعتراف بمذبحة سربرنيتشا ، ووقفت ضد القرار الذي هو أضعف أضعف الأيمان ) و كل التحية للشهيدة راتشيل كوري ، الأمريكية التي فتحت صدرها العاري ،واقفة أمام آلة القتل الإسرائيلية ، في مشهد تاريخي عز نظيره .

و مؤكد أن الضرغام القتيل ، قد أُنشئت لأجله عشرات الصفحات، و جاءه المغردون ، من كل حدب وصوب ، يبكونه و يرْثونه ، أما بواكي الشهيد علي ، فعلى قلتهم ، بقي نواحهم حبيس الحناجر والصدور .

و في الواقع ، إن المرء لينأى بنفسه عن كل خطاب ، يمكن أن تشم فيه رائحة الكراهية و عداء الناس ، أيا ما كان لونهم ، و لكن جماعة القتل الإسرائيلية التي أحرق الرضيع علي ( وقبله الطفل محمد أبو خضير ، و قبلهما كثير و كثير …) إن مثل هذه الفظاعة، لكفيلة أن تخرج المرء عن طوعه ، و “يتمنى كل أنواع الشرور لهؤلاء القتلة الغاصبين ، ويدعو إلى التنكيل بهم نكالا بهم و بما فعلوا و ما يفعلون .

 

   عبد الحكيم برنوص

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى