شوف تشوف

الرأي

عوامل في أساس أزمة المعارضات

عبد الإله بلقزيز
باستثناء المعارضات الإسلامية، التي شهدت اندفاعة جماهيرية وسياسية كبيرة في العشرين عاماً الماضية، كفت بقية المعارضات، التي من نسل يساري وقومي وليبرالي، عن أن تكون ذات تأثير أو ذات حيثية في مشهد السياسة والصراع في البلاد العربية.
بدأت كبوتها تُفصح عن نفسها، منذ منتصف سبعينات القرن العشرين، لكن استفحال أمرها وأفول فاعليتها، تعمما منذ بدايات الثمانينات من القرن عينه. ونحن نعرف أن هذا الشوط الانحداري المقطوع في مسيرة المعارضات غير الإسلامية، قطع على نحو متفاوت الوتيرة بين بلد عربي وآخر، فبُكر في بعض البلاد، وتأخر في أخرى. وكان للتبكير هنا والتأخير هناك أسبابٌ عدة.
لنطالع، سريعاً، أربعاً من الظواهر السياسية الكبرى، التي شكلت الأطر الموضوعية لتطورٍ أنجب السيرورة التراجعية في مسيرة المعارضات العربية التقدمية، أو غير الإسلامية، وحكم عليها بالأيلولة إلى حال من الأفول. والظواهر الأربع، التي نعني، كناية عن أحداث سياسية كبيرة وفاصلة، وجرت في الداخل العربي، وفي جواره الإقليمي، كما في العالم، في حقبة زمنية امتدت بين 1970 و1991. والظواهر، الأحداث تلك، هي: انصرام حقبة المد القومي، 1967- 1970، وهزيمة الثورة الفلسطينية في لبنان، واندلاع الثورة الإيرانية، وحرب أفغانستان، ثم انفراط «المعسكر الاشتراكي» وانهيار الاتحاد السوفييتي.
بدأ انحسار المد القومي العربي، منذ هزيمة عام 1967، وأتى رحيل الرئيس جمال عبدالناصر، في عام 1970، يسدد ضربةً موجعة للبقية الباقية من ظواهره. ولما كانت الناصرية إطاراً سياسياً عريضاً لحركة التحرر الوطني العربية، ونهجاً تحلقت حوله القوى القومية والوطنية، وقسمٌ كبير من اليسار العربي، وصون الأمن العربي في مواجهة الأحلاف الأجنبية، ومواجهة المشروع الصهيوني، فقد آذنت نهايتها في مصر بنهاية حقبة سياسية، سرعان ما أتى من يجبها، وينخرط في مسلسل متصل من سياسات تصفية مكتسباتها. ومع أن الثورة الفلسطينية شهدت صعودها الكبير في حقبة أفول المد القومي، إلّا أن الهزيمة ورحيل عبدالناصر دشنا طوراً سياسياً نقيضاً لذلك الذي فتحته ثورة يوليو/تموز 1952. ومن حينها، كان على المعارضات التقدمية العربية أن تجد نفسها مدفوعةً إلى العمل في شرطية سياسية قاسية، وأن تنتقل إلى مواقع دفاعية بالغة الصعوبة، وقد أجبرت الثورة الفلسطينية نفسها، كما سورية والعراق، على الانتظام الاضطراري في تلك المواقع منذ ذلك الحين.
نُظر إلى الثورة الفلسطينية، منذ 67، كعزاء لما حصل و«رافعة» لحركة التحرر الوطني، وهكذا تحولت الثورة إلى مثال مرجعي في بيئات المعارضات التقدمية، ونسجت الأخيرة، في الأردن ولبنان خاصة، علاقات التحام بخطها السياسي، تماماً كما استقبلت معسكراتها التدريبية مئات المعارضين العرب، ومؤسساتها الإعلامية أمثال هؤلاء، لتتحول إلى هيكل سياسي جامع لطيفٍ واسع من السياسيين المعارضين. لكن الثورة غرقت في أوحال حرب لبنان الأهلية، كما غرقت، قبلها، في أوحال الأردن، ثم ما لبث الاحتلال «الإسرائيلي» لجنوب لبنان، في عام 1978، أن أخرجها من الأجزاء المتاخمة لفلسطين المحتلة، ليأتي الاجتياح الصهيوني للبنان، وحصار العاصمة بيروت، في صيف عام 1982، فيخرجها من بيروت ولبنان، ليتوزع قادتها وأطرها ومقاتلوها في المنافي.
في خضم هذه التغيرات الدراماتيكية، كانت المنطقة على موعد مع صعود التيار الإسلامي. بدأ ذلك في إيران، إبان ثورتها على نظام الشاه في عام 1979، وإمساك رجال الدين بمقاليد الثورة والدولة، وصولاً إلى تأسيسهم نظام «الجمهورية الإسلامية»، ثم تلا ذلك انطلاق موجات «الجهاد الأفغاني» ضد الجيش السوفييتي، الذي اجتاح البلاد، لإنقاذ النظام «الشيوعي» فيها. وكما أطلقت الثورة الإيرانية مسلسل ميلاد «الشيعية السياسية»، في البلاد العربية، كذلك أُطلق «الجهاد الأفغاني» مسلسل ميلاد «السنية السياسية»، التي تكون كثيرٌ من مؤسساتها التنظيمية المسلحة في خضم حروب أفغانستان: ضد السوفييت في الثمانينات، وفي الحرب الأهلية بين «المجاهدين الأفغان»، في مواجهة بعضهم، وبينهم و(بين) حركة «طالبان» في التسعينات.
وآخر تلك الحوادث الكبرى الأربع انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر «الاشتراكي». لقد كان الأخير ظهيراً لحركات اليسار والحركات القومية في الوطن العربي، وعوضت، بالعلاقة به، بعضاً من الفراغ الذي خلّفه الانكفاء الاستراتيجي للمشروع الناصري. ومن آيات الأثر السلبي لانهيار الاتحاد السوفييتي على أوضاع اليسار والمعارضات، والأوضاع العربية إجمالاً، التدمير الأمريكي – الأطلسي للعراق، في حرب «عاصفة الصحراء» 1991، وجر منظمة التحرير والأنظمة العربية إلى التسوية المذلة في مؤتمر مدريد 1991، وما تلا ذلك من انقلاب هائل في توازنات القوى في الداخل العربي.
ينبغي لقراءة موضوعية ومنصفة لأزمة المعارضات العربية، في العقود الأخيرة، ألّا تتجاهل ما كان لهذه العوامل الموضوعية من كبير أثر في توليد تلك الأزمة الحادة، أو على الأقل، في تأسيس شروطها التاريخية هذه، التي ستتعهدها المعارضات بالتوسعة والتطوير من طريق ما ارتكبته من أخطاء فادحة في إدارة مرحلة الجزر والتراجع!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى