شوف تشوف

عومو بحركم

في الدول الأوربية والغرب عموما الأكثر دخلا هم أصحاب المهن الحرة: بلومبي، بناء، صباغ، مصلح كهرباء، ميكانيكي، بستاني…
وأصحاب هذه المهن يربحون أحسن من أستاذ جامعي أو موظف عمومي، بالإضافة إلى أنهم يمارسون حرفا يحبونها ويبدعون فيها، وليس مثل الوظائف الحكومية التي تعلم الخمول والكسل ويغرق أصحابها في الرتابة والبيروقراطية.
في المغرب للأسف ما زالنا ننظر إلى هذه المهن نظرة دونية ونعتبر أصحابها “بيطالي مقنع” أو “طالب معاشو”، أي مجرد شخص فشل في حياته الدراسية وانتهى يمارس حرفة يبحث بها عن “طرف ديال الخبز”، والحال أن هذه المهن كلها مهن شريفة وممارستها تتطلب تكوينا ومهارة.
الجميل اليوم هو أنك يمكن أن تتعلم كل ما يمكن أن يخطر على بالك من يوتيوب، فهناك قنوات تعلم الطبخ وأخرى تعلم البريكولاج في كل شيء وثالثة تعطي دروسا تطبيقية في الميكانيك والمهن اليدوية والمعلوميات والكهرباء، يكفي فقط أن “بنادم تكون عندو القريحة وباغي يتعلم”، لأنه ليس كافيا أن يلبس الشاب أو الشابة طابلية تحمل علامة OFPTT ويقضي اليوم جالسا يحملق في السبورة أو يفتح أو يغلق البولونات لكي يصبح “معلم” في نهاية التكوين.
“باش تعود معلم خصك تكون قافز وتحك مزيان مع المعلمين وتمارس خدمتك بإخلاص وحب، وتحيد منك القوالب ديال المغاربة، يعني تخدم بالمعقول وأي حاجة صاوبتيها تصرعها، باش الناس يبداو يكولو ملي يشوفو خدمتك الله يعطيه الصحة، ماشي كي شي وحدين اللي دار فيهم شي خدمة كايبقاو الناس يفوتحو معاه ملي يطلع النهار حتى يطيح الظلام، والعلامة المميزة ديالو كاتعود هي “تفو الله ينعلها سلعة”.
في أوربا كان خلاص الاقتصاد في تشجيع خلق المقاولات الصغيرة، تلك الشركات التي يخلقها مقاولون شباب برأسمال صغير يكون في الغالب قرضا من أحد البنوك بفائدة لا تتعدى واحدا ونصف بالمائة، ويخصص القرض لشراء سطافيط وأدوات العمل، البستاني يشتري مقصات وأدوات الحفر وآلات لتشذيب العشب والأشجار، والبناء يشتري أدوات البناء، والتقني يشتري أدوات إصلاح الآلات وهكذا. وينشئ المقاول الشاب شركة لها عنوان وهاتف وموقع إلكتروني وحضور في شبكات التواصل الاجتماعي، ويضع على سيارة الخدمة ملصقا يحمل علامة المقاولة ورقم هاتف للاتصال ويشرع في عرض خدماته.
في المغرب لدينا الآلاف من أشباه هؤلاء الشباب، أغلبهم تخرج من معاهد التكوين المهني، ومنهم من تعلم الحرفة عن طريق الممارسة فقط، لكن طموحهم المهني في الحياة لا يتعدى الحصول على دراجة نارية وحقيبة أدوات والبحث عن البريوكولات الصغيرة اليومية، بدون تغطية صحية أو ضمان اجتماعي أو تقاعد.
والواقع أن كثيرا من هؤلاء الشباب لا يفكرون في إنشاء مقاولاتهم الخاصة والحصول على قروض لشراء سطافيط وأدوات عمل وتشغيل شباب آخرين في مقاولتهم، لأنهم متشبعون بثقافة العمل في “النوار”، فهم يريدون أن يكون كل ما يربحونه غير خاضع لأي ضريبة أو اقتطاع، ولذلك يفضلون الاشتغال بشكل عشوائي بدون أي تغطية صحية أو تقاعد. فإذا مرضوا اشتكوا من غياب الرعاية الصحية وإذا هرموا وأصبحوا غير قادرين على العمل أصبحوا عالة على أنفسهم وعلى المجتمع.
المشكل بالنهاية مشكل ثقافة وعقلية وليس فقط مشكلا اقتصاديا، فالشباب المتخرج من معاهد التكوين المهني يجب أن يكون لديه طموح لخلق مقاولته الذاتية وأن يبذل مجهودا لكي يطورها وينجحها لكي يصبح مساهما في خلق الشغل، لأنه بدون المقاولات الصغرى لن يخرج المغرب أبدا من الفقر، ولن يتعلم شبابه روح المسؤولية وسيظلون دائما لقمة سائغة لأصحاب الشركات الجشعة التي تستعبد الشباب بثلاثة آلاف درهم في الشهر.
وإذا كان من مشروع على الدولة أن تدعمه فهو مساعدة الشباب على خلق مقاولاتهم الذاتية لكي يتخلصوا من عقدة الوظيفة وعقيدة “لصق فالمخزن” التي خربت عقول المغاربة وحولتهم إلى باحثين عن ريع الوظيفة العمومية التي لا تعني عند المغربي شيئا آخر غير الراحة والسياحة وانتظار الراتب، مع استثناءات قليلة في قطاعات معينة كالمالية والضريبة حيث الإدارة صارمة مع موظفيها.
الحل واضح ولا يحتاج لكثير من الشرح، هناك قطاعات مهنية كثيرة غير مهيكلة يجب أن تصبح مهيكلة، ومن أجل ذلك على المؤسسات المالية والدولة أن تساعدا الشباب الذي يحمل شهادة مهنية على خلق مقاولاتهم لكي يصبحوا “باطرونات ديال روسهم”، هكذا سيتعلمون التسيير ويلجون سوق الشغل من باب المسؤولية، أو بعبارة أخرى “تعطاهم فرصة وديك الساعة يعومو بحرهم”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى