الرأي

عين الطفولة

كان رجلا عصاميا وصاحب مبادئ وذا رؤية نافذة لما سوف يأتي، فبقدر اعتزازه بمهنة المعلم الذي كاد أن يكون رسولا، فإن تعلقهُ بأهذاب الحرية ونبذه للقيود بكل أشكالها ومظاهرها، جعلاه يتخلى عن الوظيفة في سن مبكرة، مقبلاً على نمط اجتماعي سيختلف في ما بعد، ليرتبط إلى حد ما بالتجارة والسياسة والعمل الجمعوي. وفضلا عن كل ذلك فقد ظل متمسكا بيوتوبياته، يتصور الأمورَ ويعطيها تفسيراً انطلاقاً من تجربته في الحياة، التي يعتبرها نموذجا متفرداً، يسعى جاهدا إلى تكريس نتائجها في تربية الأبناء، وإعطاء درس إنساني متميزٍ يخلد أثره. وأعتقدُ أن هذا ما جعلهُ يفهم ويفسر الحياة من وجهة نظره الخاصة، فإنْ لامسَ جانباً من النبوغ والتفوق في أحد أبنائه، نَسبهُ إليه، بلْ وأعطاه صفةَ الوراثة، معتقداً أنه الأجدر بهذا التكريم والاعتراف، لكي لا يغيب أو يغفل أحدٌ جهوده وتضحياته، والحقَّ أقول إنني رأيت فيه الأب الذي كرس حياته من أجل أسرته وأبنائه، فلم تَهزمْهُ الأهواءُ والنزوات التي عصفت بالكثير من بني جيله. لكن طموحَه رغم كل ذلك ظل بسيطاً لا يتجاوز حدود مقولته الشهيرة التي أضحى متمسكاً بها إلى اليوم: «قليل ومداوم ولا كثير ومقطوع…».
كانت فلسفته تلك تجعلني أدخل في حلقات استغراق وتأمل غالبا ما تزج بي في غيابات التناقض واللافهم… كيف لشخص يتمتع بكل تلك الجرأة والاندفاع من أجل تحقيق طموحاته في أن يصبح رجلا ذا مال وقوة ونفوذ سياسي، أن تصير أغلى أمنياته مثلا، ألا يحيا تحت رحمة مالك منزل يدمر استقراره أول كل شهر بأداء فاتورة الكراء.. كان ذلك يربك فهمي ويجعلني في حيرة من أمري، إن الشخصَ الذي يستقيل من وظيفته وينطلق بحثاً عن سبل للكسبِ مجهولةَ المعالم محفوفة بالمغامرة، لهو كائنٌ يتمتع بكثير من القوة والطاقات الإيجابية مع كثير من الوثوق بالنفس وما ملكتْ من مواهب… فما الذي جعله يتستر خلف عباءة «الدراويش» بحسب تعبيره، مثلما كان دائما يردد دعاءه الأثير: «اللهم احشرنا مع الدراويش…» أَ لأنه ظل طوال حياته يميل إلى الزهد ويفضل نمط الزهاد في العيش، أم أن شعلة الحماس والاندفاع أيام الشباب والعنفوان قد خبَتْ لأسباب لا علم لي بها؟… لكنني لا أستثني أمراً هاما في هذا السياق، وهو أن والدي كان وما يزال شديد الارتباط بجذوره وأصوله، معتدا بنسبه الشريف وبشجرة الأجداد التي يصل نسبها إلى شرفاء آل البيت وتحديدا إلى علي بن أبي طالب، بل إنه كان حريصا على جمع الوثائق والمجاميع والكتب التي تؤيد هذا النسب، وأذكر أن أول كتاب نصحني بقراءته وفهم معانيه وحفظ ما جاء فيه، بعد المصحف الكريم والسيرة النبوية العطرة، هو كتاب: «لمحات من تاريخ زاوية أولاد غيلان»، الذي استطاع أن يحصل عليه فور إصداره عام 1987.
(يتبع…)

مقالات ذات صلة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى