الرئيسية

غضبة الوديان

حسن البصري
لم يكن أحد يعرف اسم وعنوان واد مغمور يدعى أغبالو، حتى كهول منطقة تارودانت يشيدون بخصاله وهدوئه وإصراره على أن يظل رافدا مهادنا لا سوابق له في التخريب والسطو على البشر والحجر.
ذات عشية انتفض الواد، وداهم لاعبين ومشجعين وهم يركضون خلف الكرة، فرمى بهم في مجراه السحيق، ليحول المباراة إلى فاجعة أودت بحياة ثمانية أشخاص. لم يكتف أغبالو بمسح ملعب جاثم في مجراه، بل إن سيوله الجارفة حاصرت السلطات وبعض الساكنة، فأوقفت عملية البحث عن مفقود.
وما أن استعاد واد أغبالو هدوءه ولعن الشيطان الرجيم، حتى استفاق واد إمليل من سباته، وعبر عن غضبه وهو يجرف أطنانا من الصخور، لم يعرف مثيلا لها أبناء المنطقة، ولم تفطن إليها مديرية الأرصاد الجوية الوطنية التي قامت بقياس درجة الغضب، فتبين لها أنها بلغت المستوى البرتقالي.
تنتهي غضبة واد في الحوز فيعلن واد بتافيلالت جاهزيته للغضب الساطع، فيتصدر نشرات الأخبار، ويحطم أرقاما في حوزة أقرانه من الوديان الغاضبة. واد دمشان جرف حافلة لنقل المسافرين ورحل بهم إلى المقبرة حين رمى بهم في الوادي السحيق، وفي طاطا وشيشاوة استفاقت وديان أخرى مشهود لها بحسن السيرة والسلوك.
في كل غضبة يمارس المواطنون هواية تصوير السيول الجارفة، يجدون متعة في نقل الفواجع على الهواء مباشرة، يؤمنون بتغيير الحال بـ»سيلفي» هو أضعف الإيمان، أما وزارة التعليم فقد اختارت أمام حجم الغضب الساطع للسيول، تعليق الدراسة في جميع مؤسسات العالم القروي بتارودانت وطاطا ليس خوفا على التلاميذ، بل رغبة في تحويل كثير من المدارس إلى مراكز إيواء للذين وجدوا أنفسهم بدون مأوى.
كثير من الوديان المغمورة استفاقت من سباتها العميق، وأصرت على القيام بمناورة في مجاريها بالمياه والصخور الحية، معلنة استعدادها لاختراق كل من سولت له نفسه احتلال ملك الوادي. لكن واد الزيتون بتلمسان الجزائرية اختار غضبة أخرى حين تمرد على السياسيين وفتح الحدود مع المغرب، لأن غضبته كانت أكثر حدة من غضبة المواطن الجزائري.
ما فعله واد الزيتون في غمرة تمرد الوديان والأنهار ينسجم مع الحراك الجزائري، الذي يرفض القطيعة مع المغرب، وينادي بتحطيم السياج الفاصل بين بلدين تجري في دماء شعبيهما سيول العروبة والإخاء. فقد قام واد الزيتون بما لم يقم به اتحاد المغرب العربي، فخرج عن طوع السياسيين والعساكر واختار صلة الرحم مع المغاربة، ضدا على تقلبات الزمن العربي.
لم يستأذن واد الزيتون القيادة العسكرية الحاكمة، ولم ينل تأشيرة من الجامعة العربية، ولم يعرض نزوته على رجال السياسة، ولم يستشر مع مديرية الأرصاد الجوية في تلمسان أو الجزائر العاصمة، لأنه يعلم علم اليقين أنها منشغلة بتتبع المناخ السياسي في البلاد، بل استيقظ باكرا وقرر السفر بدون تأشيرة.
ذكرني غضب واد الزيتون بفورة الغضب التي انتابت ذات شتاء نهر الأردن، الذي حول مجراه واخترق أراضي تحت السيطرة الإسرائيلية، لينتزع قطعة من الأرض المغتصبة من تحت أقدام الاحتلال، دون الحاجة إلى جهود ديبلوماسية أو ترخيص من هيئة الأمم المتحدة. حينها تبين أنه يوجد في النهر ما لا يوجد في حقائب السياسيين والديبلوماسيين.
في بداية السبعينات غردت الفنانة الشعبية فاطنة بنت الحسين منبهة من غضبة الوديان، وكأنها تقرأ طالع المجاري، وهي تنشد «الواد الواد خايفة من حملاتو»، ومع مرور الزمن قيل إن التجذير الرسمي لا يأتي من أفواه الشيخات، بل من السلطات الأمنية التي طمأنت الناس وقالت إن قطعة بنت الحسين مجرد صيحة في واد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى